الـ"فيراج".. وعي الحرية على المدرجات

22 أكتوبر 2014
ولّدت منظومة الاستبداد في تونس عنفا متعدد الأشكال (أ.ف.ب)
+ الخط -

لطالما انتهجت سلطة نظام المخلوع، زين العابدين بن علي، منهج تخدير الشّباب وتهميشه، وكان قطاع واسع من الشباب التونسي، ولأكثر من عقدين، يعيش على هامش السلطة، التي لم ترَ في الشباب، سوى طاقة رقص أو غناء، أو مجرّد أرقام على صفحات إحصاءات التعداد السكّاني.

وفي تلك السنوات، كانت الملاعب من أهمّ آليات التهميش التي ارتكز عليها النظام، وعمل على تحويلها إلى مساحة إلهاء للشباب، إذ تساهم هذه الفضاءات في صرف نظر أهمّ الفئات الاجتماعية وأوفرها طاقة عن الحياة العامّة والقضايا الكبرى في السياسة والمجتمع، كما أنّها تساهم في تنفيس هموم المواطن، الذي يواجه يوميّا سياسات القمع، التي تمس جميع القطاعات والفضاءات بدون استثناء. فيكون هذا التنفيس فرصة للنّظام يستغلّها في تجديد قمعه واستبداده المسلّط على الشّعب.

لكن، تحولت هذه الملاعب تدريجيا إلى فضاء تحكمه نواميس وقوانين خاصة، غير التي تنتشر خارجه، ممّا جعله فضاء استثنائيا، تشكلت داخله علاقات اجتماعية نوعية، تختلف شكلا ومضمونا عن الروابط الاجتماعية المتشكلة في المجتمع.

"Le virage"، أو الـ"فيراج"، يعرف في تونس على أنه الفضاء المحدود بين مدارج ملعب كرة القدم، تجتمع فيه أكثر الجماهير حيويّة ونشاطا وتشجيعا للفرق. وتكوّن داخل هذا الإطار الاجتماعي نظام علائقي يقوم على الولاء للفريق الرياضي، إلى جانب الانتماء إلى المجموعات الصغيرة ضمن الفريق الواحد، ليوجد داخل "فيراج"، نادي الترجي الرياضي التونسي، مثلاً، مجموعة الأولترا، ومجموعة السوبرا، ومجموعة الكورفا سود، وغيرها من المجموعات التي يحمل أفراد كل واحدة منها مبادئ وتصورات مجموعته، يقع ترجمتها غالبا في الأغاني ونسق الملابس والممارسات الاجتماعية داخل الملعب.

لقد تحول الملعب والفيراج، من آليّة تهميش، إلى فرصة بناء علاقات وآلية تنظيم في مجتمع سيطر عليه تنظيم الحزب الواحد المتحكم في الدولة. فأصبح الفيراج فضاء يلتحم فيه الفرد ببقيّة الجمهور، ليتوافقوا فيه على طرق وأشكال معاملاتهم في فترة زمنيّة محدودة.

وبتحول ماهية الملعب ودوره وحضور عنصر الجماعية داخله، تحولت عديد الخصائص الفردية للمشجعين، وبرزت فيهم خصائص خفية، كان قد حجبها الخوف من النظام والشعور بالعزلة داخل المجتمع. وهذا يحيل إلى اعتقاد "غوستاف لوبون": "إن الجمهور الذي يتكون من عظام الناس كما من أدنيائهم، إنما يشتغل وفق نمط جمعي لاشعوري، يفقد فيه البشر فرادتهم الذاتية وتذوب كفاءاتهم العقلية في الروح الجماعية، وهكذا ينحل المختلف في المؤتلف، وتسيطر الخصائص اللاشعورية التي تكون في الجمهور معاكسة أحيانا لخصائص الفرد مأخوذا على حدة".

وعن طريق الجمهرة، يكتسب الفرد المنضوي في الجمهور شعورا عارما بالقوة، مما يجعله ينصاع بسهولة لبعض الغرائز، التي قد تدفع أحيانا به نحو ممارسة أعمال عنيفة. وباعتبار أن المشجع التونسيّ "ابن الفيراج"، حامل في لاوعيه بذور الثورة على النظام، ورفض سياسات وخيارات الدولة اللاعادلة واللاشعبية، كما يحمل في طيات وعيه موقفا من العنف، ناتجا عن الاستبداد والقمع، هذا ما أسهم في تحويل الجمهور داخل الملعب إلى قوة رفض واحتجاج جمعي.

إن تعرض هذه الجماهير الشبابية للعنف والاستبداد، كونها جزءا من الشعب الذي كان مقموعا، باستمرار في حياتها، ولد لديها شعورا بالحقد والكراهية لكل أجهزة السلطة، وإلى تنامي دوافع الانتقام في تعبيرات مختلفة، أولها التعامل السلبي للفرد مع القرارات والأوامر التي تصدرها السلطة. وتجسد ذلك في عدم احترام الجماهير لأعوان الشرطة داخل الملاعب، وشتمهم بشكل مباشر، أو عن طريق الأغاني التشجيعية، وآخرها القيام بأشكال أكثر تعقيدا، كالانتفاض، ونقل الاحتجاج إلى الشارع.

ورغم عملية التفتيش التي كان يتعرض لها الشباب أثناء دخوله إلى مدرجات الملاعب، إلا أنه استطاع أن يبتكر وسائل مقاومته للظلم وأدوات تعبيره عن الغضب والاحتجاج في هذا الفضاء. وقد مثلت أغاني الـ"فيراج" أهم المظاهر الثورية قبل 14 يناير، حيث امتزجت كلماتها بشتم السلطة وعصا الشرطة، والمطالبة بالحرية صراحة.

"الحرية يا العالي وقتاش (متى) نكسبها، حتى الكرة دخلوا فيها أصحاب السلطة
منها حرمونا، العاصمة ولات (أصبحت)غمة"

يصور هذا المقطع من الأغنية توق الجماهير الشابة إلى الحرية، وضيقها من حجم تدخل النظام في حياتها، حيث نال تسلطه من قطاع الرياضة عامة، وكرة القدم خاصة.

"والله ما عاد فاهمين اللي قاعدين نشوفو فيه
قداش من واحد فينا في الصف يتسبوا والديه
من غير ماتفركسني (تفتشني) قلي نعود نجيكم عريان
من حقك تمرجني داخل في حقوق الإنسان
الحرية اذاكا اش نتمنى
الحرية زعمة يجي نهار نكسبها
الحرية أنا اللي نغني عليها
نطلب مالعالي كل الشباب يعيشوها"

أما في هذه الأغنية يعبر الشباب عن استهجانه لتصرفات الأمن القمعية، ويؤكدون أن فيها انتهاكا لحقوق الإنسان، ثم تغنوا بالحرية متمنين عيش جميع الشباب في كنفها. ويمكن القول إن أغاني الـ"فيراج"، مثلت ثورة وعي غيرت المفاهيم والمطالب الشبابية، وتجاوزت كل التخمينات، وبلغت حد المطالبة بالحريات ورفع العصا الأمنية عن المواطنين وعن الفضاءات العامة مثل الملاعب. كذلك، فإن تحدي جماهير كرة القدم للنظام وكشف عوراته بصوت مرتفع، وبدون قيود، يعتبر نقطة فاصلة في تاريخ الثورة التونسية التي تحققت بفضل تراكم الجهود والنضالات، ولم تكن مجرد هبة أو انتفاضة لحظية.

واستطاع شباب الـ"فيراج" وجماهيره هز عرش النظام في سنواته الأخيرة وإزعاجه، وتحقيق خطوة مهمة وكبيرة قبل ثورة 14 يناير، تتمثل في كسر حاجز الخوف والصمت، والخروج الجماعي إلى الشوارع والساحات. وواصل شباب المدرجات دوره بعد ذلك في إسقاط النظام إلى جانب الثوار في الأحياء والمناطق السكنية، وكان له دور مشهود في استثمار تجاربه السابقة داخل الملاعب في مواجهة الأمن في دعم وإفادة أقرانه من الثائرين.

ولا يمكن إنكار دور أهل المدرجات البارز في الحراك الثوري وفي المحطات الهامة فيه، كاعتصامي القصبة، الأول والثاني. مع أهمية التأكيد على أن أول الأحياء المنتفضة في العاصمة التونسية مثل حي التضامن ومنطقة الكرم، هي أحياء تزخر بشباب الـ"فيراج" بتلويناته المختلفة.

لقد ولّدت منظومة الاستبداد في تونس عنفا متعدد الأشكال والترجمات، خاصة في البيئات التي لم تكن تستطيع فيها الجماهير التعبير عن مطالبها بالوسائل السلمية والديمقراطية. ولئن بدا غضب الشباب ممزوجا بالعنف، إلا أنه في واقع الأمر ليس سوى انعكاس لعنف السلطة، التي كلما احتد عنفها وازداد وحشية انعكس ذلك في ممارسات الأفراد وردود فعلهم عليها.

ويبقى الرهان على تجديد الوعي الشبابي وتأهيل قدراتهم الذاتية لتتوافق مع متطلبات المرحلة القادمة، وليكون الشباب طاقة بناءة وقوة فعل واقتراح، بعد أن كان قوة رفض واحتجاج، وهذا ما ينتظر ويعول فيه على الخيار الديمقراطي للشعب.

دلالات
المساهمون