الغارقون في قوارب النجاة (1/2)

17 فبراير 2020
+ الخط -
لا أظنك ستجد توصيفاً شديد القسوة والدقة في التعبير عن أحوال المصريين مع حكامهم كالذي يرد في السطور التالية: "أما القوارب الخشبية المخصصة للطوارئ في السفينة، فقد غرقت بمن عليها ممن تشبثوا بها طلباً للنجاة، لأنها أساساً بقيت مربوطة في سارية العبّارة بسلاسل حديدية، ولم يتم إطلاقها قبل غرق الباخرة، فكأنها كانت معدة للموت لا النجاة منه، حيث إن الذين ركبوا فيها ظنوا أنها ستبحر بهم، إلا أنها غاصت بهم مع السفينة ولم يفلحوا في فك هذه القوارب".

لو كانت هذه السطور جزءاً من رواية سوداوية تتخيل كارثة غرق سفينة، لقلنا إن كاتبها يبالغ في تصويره بشاعة الأحوال على تلك السفينة، لأنه لا يعقل أن يتخلى جميع مسئولي السفينة عن فرصة إنقاذ مئات الركاب، لو قاموا فقط بفك السلاسل الحديدية التي تربط قوارب النجاة بالسفينة، إذا كان هناك سبب معقول لربطها بمنتهى الإحكام بتلك السلاسل الحديدية أصلاً؟ لكن تلك السطور جزء من شهادة واقعية كتبها الصحفي السعودي محمد آل مشّوط الذي شاءت ظروفه أن يكون شاهد عيان على كارثة غرق عبّارة السلام 98 في مياه البحر الأحمر في فبراير 2006 والتي راح ضحيتها حوالي 1070 راكب من ركابها، وكان الصحفي السعودي واحداً من بين 414 ناجياً كُتبت لهم السلامة بعد أن أمضى معظمهم يصارع أمواج البحر الأحمر لساعات طويلة في انتظار الإنقاذ الذي تأخر بشكل إجرامي لم يُحاسب أحد عليه حتى الآن.

بعد أن قرأت الشهادة التي نشرت في كتاب بعنوان (سفينة الموت) في عام 2014 عن مكتبة العبيكان بالسعودية، ظللت كثيراً أفكر في موقف الركاب الذين هرعوا إلى قوارب النجاة الخشبية فور تأكدهم من تعرض السفينة للغرق، وهم ينتظرون أن يقوم أحد بأداء واجبه، ثم حين اكتشفوا أن المركب تغرق دون أن يحمل هم ركابها أحد، ظنوا يا وِلداه أن القوارب الخشبية حين تلامس الماء ستنفتح بشكل تلقائي مثل القوارب الحرة غير المربوطة والمصنوعة من المطاط، فظل بعضهم جالساً في مكانه لكي لا يخسر فرصة البقاء في قارب نجاة لن يتسع للمئات من ركاب العبّارة، فيما حاول البعض جاهداً كسر السلاسل الحديدية، قبل أن ييأس ويلقي نفسه في الماء محاولاً اللحاق بقارب مطاطي، ليكتشف كما اكتشف الذين من قبله أن كثيراً من القوارب المطاطية كانت في حالة يرثى لها، وأن بعضها لم يُفتح عند نزوله للماء، وبعضها تعرض للخرق والتمزق، ولم ينجُ منها سوى خمسة قوارب فقط، بعضها حمل أكثر من طاقته فغرق بركابه، وبعضها شهد معارك بين من ركبوا فيها وبين من حاولوا الصعود إليها، وكان الصحفي السعودي واحداً من هؤلاء الذين وجدوا صعوبة في الصعود إلى قارب النجاة، فظل يسبح إلى جوار القارب فترة طويلة حتى رق لحاله أحد ركاب القارب فساعده على الصعود إليه.


حين صعد محمد آل مشّوط بأعجوبة إلى القارب المطاطي، كان أثر السفينة الغارقة قد اختفى تماماً، غاصت في البحر بركاب أكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ الذين أجبرهم البرد القارس على الدخول إلى بطن السفينة قبل الغرق، أملاً في حدوث معجزة ما، لكن السفينة انقلبت على جانبها الأيسر بشكل مفاجئ وسريع، فصعب على من كان بداخلها الخروج منها، إلا من استطاع كسر النوافذ للخروج عبرها، أما الذين بقوا على الجانب الأيسر للسفينة فقد مالت عليهم السفينة وسقطت بهم إلى البحر، في حين تمكن بعض الركاب الذين كانوا على سطح الجهة اليمنى من الصمود، حتى أن عشرات منهم ظلوا يتزحلقون على جوانب السفينة التي كانت تدور ببطء في اتجاهها إلى الغرق، ليجدوا أنفسهم يجلسون فجأة على ظهرها الأملس الذي يواصل الغوص نحو القاع، ولولا أن محمد قرر أن يرمي بنفسه إلى البحر مراهناً على سترة النجاة، لكان قد غرق مع الذين خافوا من رمي أنفسهم في البحر متصورين أن تشبثهم بأي جزء من أجزاء السفينة قد ينجيهم من الغرق

كان محمد آل مشوط قد ركب العبّارة اللعينة مع ابن عمه سعود لكي يقضيا أجازتهما في مصر، بعد أن فشلا في الحصول على تذكرة طيران في موسم عودة الحجاج إلى بلادهم وعودة المدرسين لقضاء أجازة نصف السنة في بلادهم، فقررا تجربة السفر بالعبّارة التي حصلا على تذكرتين لركوبها في آخر لحظة، ورغم أن الفوضى بدت جلية في جميع أنحاء العبّارة بسبب ازدحامها بالركاب وحقائبهم، إلا أنهما تصورا أن الرحلة التي تبلغ مدتها سبع ساعات ستنقضي سريعاً حين ينامان في غرفتهما، حتى تصل العبّارة إلى ميناء سفاجا، لكن سعود استيقظ بعد فترة قصيرة على رائحة دخان، تعالت بصحبتها أصوات "حريقة حريقة حريقة"، وحين خرج محمد وسعود لاستطلاع الموقف فوجئا بتدافع عشرات الركاب نحو سطح العبّارة، ووجدا على السطح أحد ملاحي السفينة، فسألاه عما يحدث قال لهما "حريقة بسيطة"، وهو ما كرره ملاحون آخرون، لكن صوت مكبرات الصوت التي استمرت في النداء على أفراد الطاقم الطبي للعبّارة لإبلاغهم بالتوجه إلى هنا أو هناك لإسعاف الحالات الطارئة واستمرار الدخان في التصاعد كان يوحي بعكس ما قاله الملاحون.

أخذ محمد آل مشوط وسعود يتبادلان الحديث مع بعض الركاب المصريين الذين كانوا قد تعرفوا عليهم حين صلوا العشاء سوياً، ليفاجأ الجميع بأصوات جلبة صادرة عن مكان قريب على سطح العبّارة، وحين اتجهوا نحو مصدر الجلبة فوجئوا بجمع من الركاب يتدافعون بعنف ويتصارعون حول صندوق حديدي كبير مثبت على سطح العبّارة ويحاولون كسره بصورة شرسة وجنونية، ليتضح بعد قليل أن ما كسروه كان صندوقاً فيه سترات نجاة بحرية، وكان أغلبهم يحاول الحصول على أكثر من سترة لأفراد عائلته، لتتعالى صرخات من لم يتمكن من الحصول على سترات نجاة، ويتصارع البعض على السترات التي يمسك بها أحدهم، لينتزعها الأقوى ويهرب بها، في حين يجلس أفراد العائلات على مقربة من موقع المعركة، ينتظرون عودة رب الأسرة بسترات النجاة.

ذهب سعود لاستطلاع الموقف داخل العبّارة، وبقي محمد يراقب ما يحدث على السطح، وهو يقول لنفسه مطمئناً إن الأمر لا يحتاج إلى ذلك التدافع والعراك، لأن المسافة بين ميناء ضبا الذي أقلعت منه السفينة، وميناء سفاجا الذي تسافر إليه ليست كبيرة، وبالتالي لن يتأخر وصول الإنقاذ لإطفاء الحريق الذي قيل إنه اندلع في جراج السفينة، لكنه فوجئ بعد قليل بتصاعد الدخان وانتشاره في سطح السفينة بكثافة، ليكتشف أن معظم من حوله يرتدون سترات نجاة وهو لا، وحين تأخرت عودة صديقه، لم يعرف ما الذي يفعله، هل يذهب للبحث عنه أم ينتظره؟ خاصة أن مواقف من حوله كانت متناقضة، ففي حين علا صوت بكاء الأطفال والنساء بشكل يثير الخوف، رأى حوله شاباً يقوم بتصوير ما يجري بكاميرا فيديو وهو في غاية الهدوء، ثم أذيعت تعليمات من أحد الملاحين للركاب بأن ينتقلوا من الجهة اليسرى التي زاد فيها الدخان إلى الجهة الثانية من سطح السفينة، فبدأ يشعر أن الموقف ربما يكون تحت السيطرة، وأن قبطان السفينة ربما اتخذ قراراً بالعودة إلى ميناء ضبا الذي كانت السفينة قد فارقته قبل ساعتين فقط.

تمكن محمد من الحصول على سترة نجاة من شاب مصري كان قد أمّهم في صلاة استغاثة شاركوا فيها على سطح السفينة، وحين عاد سعود وجدا له سترة نجاة كانت ملقاة في أحد أركان السفينة، وجلس رفيقا الرحلة يراقبان ردود أفعال الركاب المتراوحة بين الهستيريا والإنكار، ليزداد التوتر حين بدأ بعض الركاب مع حلول منتصف الليل في ترديد معلومة أن هناك قارب نجاة خرج من السفينة وهو يحمل أربعة أو خمسة أشخاص وانطلق في عرض البحر، وأكد بعضهم أن ركاب القارب كانوا قبطان العبّارة وعدداً من طاقمها، وقيل إن من أكد ذلك هم بعض الملاحين الذين يعرفون شكل القبطان ومساعديه، ومع أن محمد لم ير ذلك القارب إلا أنه استمع إلى كثيرين حوله يؤكدون المعلومة، لتبدأ الباخرة في الميل ببطء على جانبها الأيسر وأنوارها تنطفئ الواحدة تلو الأخرى مع تصاعد الدخان القادم من طرف السفينة، ومع ذلك فقد أجبر البرد القارس عدداً من الأسر وخصوصاً التي معها أطفال على الدخول إلى الكبائن في داخل السفينة خاصة بعد أن ابتلت بالكامل أرضية السطح مع ارتفاع الأمواج بشكل مخيف.


أخذ محمد يراقب خناقة اندلعت بين بعض الركاب ورجل أشعل سيجارة، مستغربين من سماحه لنفسه بالتدخين في موقف كهذا خصوصاً بعد الحريق الذي ربما أشعلته سيجارة من مدخن مثله، لكن الخناقة توقفت بعد أن دوى صوت انفجار كهربائي هائل بالقرب منهم، ليشتعل بعدها حريق قريب جداً من السطح، فيتدافع الركاب ركضاً للابتعاد عن مكان اللهب الذي سرعان ما توقف، لكن الأسلاك الكهربائية ظلت تتآكل دون لهب ويخرج منها دخان مرتفع، ليفاجأ محمد وسط هذه الفوضى براكب مصري كان يرقد مفترشاً بطانية ويتغطى بأخرى، وحين وطأ المتدافعون فراشه صاح فيهم غاضباً: "فيه إيه؟ خايفين من الموت.. لسه عارفين إن فيه موت؟ ابعد يا له.. ما حدش يدوس على البطانية"، فوجد محمد نفسه متأثراً بذلك الموقف العجيب، وبدلاً من أن يشارك غيره في التدافع، اتجه للجلوس إلى جوار صاحب البطانية الغاضب، وقام بتدفئة قدميه اللتين كادتا تتجمدان في طرف البطانية، وهو يراقب محاولات صاحب البطانية للعودة إلى النوم متقلباً من جنب إلى آخر.

أخذ سعود يحكي لمحمد عما شاهده حين نزل إلى داخل السفينة من أحوال مزرية يعاني منها الركاب الذين لم يفهموا ما الذي يجب عليهم فعله، خصوصاً أن الإذاعة الداخلية كانت تنادي على الأطباء والفنيين فقط، وأن المتحدث فيها بدا عليه الهلع بعد قليل وهو يصرخ لاستعجال الأطباء والممرضين لإسعاف المختنقين والمحترقين من الملاحين الذين كانوا يحاولون إطفاء الحريق، لكن أحداً من طاقم السفينة لم يقم بالحديث إلى الركاب لإعلامهم بوسائل النجاة والإنقاذ على سطح السفينة، فضلاً عن إخبارهم بسبب الحريق وطبيعته وإمكانية السيطرة عليه، وبالطبع لم يكن هناك أي حديث عن خطة مقترحة للطوارئ منذ أن ركب الجميع العبّارة، ليظل الجميع متنازعين بين القلق من تصاعد الدخان وأصوات الاتفجارات، والأمل في قدوم الإنقاذ الذي لم يفهم أحد لماذا تأخر.

لم يمر وقت طويل حتى تأكد جميع من على سطح السفينة، أن مشكلة السفينة لم تعد في الحريق، بل في كونها تميل ناحية جانبها الأيسر في طريقها للانقلاب رأساً على عقب، بدأ بعض الركاب ومنهم محمد آل مشّوط في التشبث بكل ما يستطيعون الإمساك به في جانب الباخرة الأيمن، ليعلو صوت صرير حاد ارتفعت معه صرخات الفزع وأصوات الاستغاثة وأصوات تكسر النوافذ، وبدأ الموجودون في وسط السفينة وجانبها الأيسر يحاولون الوصول إلى جانبها الأيمن قبل أن يسقطوا في البحر، وفجأة تشبث أحدهم بابن عم محمد وسقط الاثنان سوياً إلى الأسفل واختفيا عن نظر محمد في ظلام البحر. بدأ محمد في شم رائحة شواء أجساد بشرية تصاحب أصوات الانفجارات المستمرة في التصاعد من قلب السفينة، وحين سمع محمد من يحذر بأن السفينة فور غرقها ستحدث في محيط غرقها دوامة هائلة تبتلع كل من في محيطها، قرر أن يرمي نفسه في البحر بعد أن نظر إلى الساعة فوجدها تشير إلى الثانية وخمس وعشرين دقيقة بعد منتصف الليل.

حين تمكن محمد من الصعود إلى القارب المطاطي بعد أن رق له قلب أحد ركابه، فوجئ بأن القارب الذي يجب ألا تزيد حمولته عن 25 شخصاً، كان يوجد به حوالي 45 شخص جميعهم رجال وفتاة صغيرة فقدت عائلتها في البحر، وبعد لحظات فوجئ الجميع براكب يصرخ قائلاً أن قاع القارب قد انخرق وبدأت المياه تدخله، لكن الرجل وضع قدمه على مكان الثقب ليؤخر تسرب الماء، في حين بدأ بقية الركاب في محاولة نزح الماء خارج القارب، وفي حين علت في الجوار أصوات صفارات يطلقها بعض الركاب الذين يرتدون سترات نجاة تحتوي على صفارات، سطع في السماء ضوء قنابل ضوئية أطلقه بعض ملاحين السفينة الذين ركبوا بعض القوارب المطاطية، وكان ذلك الضوء الذي سرعان ما تلاشى آخر ما شهده محمد قبل أن يدخل في إغماءة ظل يغالبها طويلاً، وبعد أن أفاق منها وجد الركاب منهمكين في نزح المياه المتسربة للقارب، وعرف أن بالقارب ستة من طاقم العبارة، ورأى واحداً منهم وهو يمسك بجهاز لاسلكي يطلب به النجدة دون أن يتلقى أي رد، لكنه ظل منهمكاً في محاولته، وحين توقف عنها بعض الشيء أخذ رجل عجوز يصرخ فيه أن يعود للمحاولة، فقال له الملاح إنه يخاف نفاد بطارية الجهاز، لكن العجوز أخذ يناشده أن يطلب المساعدة من إسرائيل قبل أن ينخرط في بكاء حاد.

ومع ارتفاع الأمواج بشكل مخيف وضربها القارب بعنف، امتلأ القارب المطاطي بالمياه، وأخذ في التمدد تدريجياً على سطح الماء، مما جعله مقعراً بعد أن هبط قاعه تحت ثقل الركاب وضغطهم بأقدامهم على قاعه، ليصبح أشبه ببركة ماء صغيرة داخل البحر، وغمرت المياه ركابه إلى منتصف أجسامهم، فأخذوا يتشبثون بحوافه وبالحبال التي تمتد إلى شراعه وبعمود مطاطي كان في عرض القارب يربط بين جانبيه من المنتصف، وفي حين واصل بعض الركاب نزح المياه، فوجئ محمد بالرجل العجوز يمتطي ظهره لكي يصل إلى شراع القارب ويتمسك به، وكان لا يلبس سوى قميص فقط، حيث فقد ملابس نصفه الأسفل في البحر، وبعد مدة طلب منه محمد النزول ليجلس في مكان آخر بعد أن فشل في تحمل ثقل جسمه، ليجلس الجميع في انتظار طلوع الصباح، وحين جاء الصباح حمل إليهم إحباطاً شديداً لأن الموج مع شروق الشمس وصل إلى أقصى هياجه ارتفاعاً وجموحاً، ليستسلم ركاب القارب للأمواج وهي تتلاعب بهم، في حين استمر ثمانية من الركاب في نزح الماء خارج القارب، لكي لا يفقدوا أملهم في قدوم النجاة.

.....

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.