27 سبتمبر 2019
العودة إلى سورية
سؤالٌ يبدو أبدياً، يُطرح على كل مثقف سوري يكتب مقالات ينتقد فيها النظام، وخصوصاً ممارسات الأجهزة الأمنية وسلطة الأمن، أو يتحدّث عن معتقلي الرأي، والسؤال الأبدي هو: هل ستجرؤ على العودة إلى سورية بعد كتابتك هذه؟.
أسافر كثيراً خارج وطني سورية، لكنني أعود إليه دوماً، لأنه انتمائي، ولأني أؤمن أن لي كل الحق أن أعيش فيه، وأن أتكلم بنزاهة ومصداقية، والأهم بحرية. ولست وحدي من يتلقى تحذيرات وتخويفا من الأصدقاء، بعد أن نكتب مقالات عن انتهاكات الأجهزة الأمنية وعن المعتقلين، وتحديداً مُعتقلي الرأي، وعن عنف السلطة من استعمال البراميل المتفجرة والدبابات لمحاربة ما تسميها جماعات إرهابية مسلحة.
ما الذي يعنيه في علم النفس أن يُسأل الشعب السوري (23 مليونا قبل الثورة، ونزح حوالي نصفه بعد العنف الفظيع): هل تجرؤ، أيها المثقف الذي تنتقد النظام وأجهزته الأمنية القمعية، على العودة إلى سورية؟ سؤال يعني أن كل الشعب السوري مُروّع من الأمن، وأن ثمة حالة من الرُهاب النفسي التي تقارب الذعر من مجرّد انتقاد النظام والمخابرات، حتى أن العملية التربوية في سورية (بشكل عام وواسع) تعتمد على استمرار تحذير الأولاد من التحدّث بالسياسة، أو الانتماء إلى أحزابٍ معادية للنظام، والذاكرة الجمعية للشعب السوري لا تنسى المعتقلين الإسلاميين، والمنتمين لرابطة العمل الشيوعي، وحتى المدافعين عن حقوق الإنسان، أفواجاً بالآلاف، غُيبوا في السجون، بعضهم عشرين سنة.
أصابت تلك الاعتقالات الناس بحالةٍ من الذعر الأخرس، بل أصبحت لدى بعضهم حالة رهيبة من العُصاب النفسي، تُسمى التماهي مع المُعتدي. وقد أبدع مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور" و"سيكولوجية الإنسان المهدور" في تحليلها، وهي أن هول الذعر ممن يمثلون الأجهزة الأمنية يجعل المواطن يبرّر لها استبدادها، ويلوم كل من تجرأ مُعترضاً أو مُخالفاً الرأي الوحيد السائد في سورية. بل يتعمد بعض هؤلاء من ضحايا حالة التماهي هذه أن يجهروا بأن الأجهزة الأمنية على حقّ في اعتقال الشبان الذين سيخرّبون الوطن بأفكارهم المُعادية لسياسة الممانعة والمقاومة التي تمثلها سورية وحدها! ومفهوم المؤامرة أحد ركائز الأجهزة الأمنية في سورية، فكل رأي مُخالف للرأي الأوحد مؤامرة، وصاحبه مدفوع من الخارج، وربما يقبض أموالاً لتخريب البلد، حتى أن مئات الشبان، ومعظمهم دون الثامنة عشرة، اعتقلوا بسبب جرأتهم على تصوير المُظاهرات السلمية بالموبايل، والأكثر إيلاماً الحالة النفسية التي يشعر بها معظم السوريين بأنهم متهمون حتى يثبت العكس، كما لو أن السوري مُضطر لتقديم براءة ذمةٍ يوميةٍ للأجهزة الأمنية، ولأن يسلمها، بكل رضى، عنقه، لكي لا تعتقله ويعدها ألا يفكّر، وبأن لا يتكلم إلا عن نظرية المؤامرة، ولا يؤمن إلا بالله عز وجل، وبأن سورية دولة الممانعة والمقاومة ضد العدو الإسرائيلي.
هذا هو النمط الذي تم فبركة السوري على أساسه عقوداً. لكن، بعد أن انتفض السوريون مطالبين بالحرية، لم يعد هذا السؤال مقبولاً لدى الكتاب الذين ينتقدون النظام وأجهزته الأمنيه: هل ستجرؤ وتعود إلى سورية. وكم أحزنني حين راهن أصدقاء ومعارف على عودتي إلى سورية بعد نشر مقالي "مؤامرة بندر بن سلطان" (العربي الجديد، 23/12/2014)، عن المسرحية الهزلية، حرق المسؤولين في المشفى الوطني في اللاذقية هضبةً من حبوب الهلوسة (كما ادّعوا)، أرسلتها إليهم قناة الجزيرة. ثم مقالات أخرى، وصفت في أحدها شاحنةً محملة بأكوام جثثٍ مشوهة لشبان قُتلوا بالبساطة التي تُقتل فيها الحشرات، مرّت تستعرض بضاعتها في شوارع اللاذقية، ليرى الناس مصير الإرهابيين(!). بعد كل مقال لأصدقائي الكتاب الذين أصرّوا على البقاء في سورية، والتحدّث بحرية، مستعدين لدفع ثمن كلمة الحق، يتساءل السوريون: هل ستجرؤون على العودة إلى سورية، في كل مرة تغادرونها وتكتبون بجرأة؟ وقاطع سوريون مذعورون هؤلاء الكتاب الشجعان، وحذفوهم من صداقاتهم في "فيسبوك"، أو تعمّدوا أن يسخروا من أفكارهم، لإرضاء الأجهزة الأمنية، وإرضاء عنصر المخابرات الصغير المزروع في دماغ كل سوري؟ المنطق الغريب الذي تستعمله معظم أجهزة المخابرات في سورية حين يستدعون كاتباً، بسبب مقالٍ لم يعجبهم: لا يجوز نشر الغسيل الوسخ أمام العالم. .. ما مهمة الكتابة إن لم تنشر الغسيل الوسخ، وتحك عن الفساد والسلبيات في مؤسسات الدولة؟.
سأعود إلى سورية، مع أصدقائي الكتاب الذين يعتبرون الكتابة شرفاً، وكلمة حق، ودفاعاً عن حقوق الإنسان بالحرية والعيش الكريم. وسنستمر بنشر الغسيل الوسخ أمام عيون العالم كله.
أسافر كثيراً خارج وطني سورية، لكنني أعود إليه دوماً، لأنه انتمائي، ولأني أؤمن أن لي كل الحق أن أعيش فيه، وأن أتكلم بنزاهة ومصداقية، والأهم بحرية. ولست وحدي من يتلقى تحذيرات وتخويفا من الأصدقاء، بعد أن نكتب مقالات عن انتهاكات الأجهزة الأمنية وعن المعتقلين، وتحديداً مُعتقلي الرأي، وعن عنف السلطة من استعمال البراميل المتفجرة والدبابات لمحاربة ما تسميها جماعات إرهابية مسلحة.
ما الذي يعنيه في علم النفس أن يُسأل الشعب السوري (23 مليونا قبل الثورة، ونزح حوالي نصفه بعد العنف الفظيع): هل تجرؤ، أيها المثقف الذي تنتقد النظام وأجهزته الأمنية القمعية، على العودة إلى سورية؟ سؤال يعني أن كل الشعب السوري مُروّع من الأمن، وأن ثمة حالة من الرُهاب النفسي التي تقارب الذعر من مجرّد انتقاد النظام والمخابرات، حتى أن العملية التربوية في سورية (بشكل عام وواسع) تعتمد على استمرار تحذير الأولاد من التحدّث بالسياسة، أو الانتماء إلى أحزابٍ معادية للنظام، والذاكرة الجمعية للشعب السوري لا تنسى المعتقلين الإسلاميين، والمنتمين لرابطة العمل الشيوعي، وحتى المدافعين عن حقوق الإنسان، أفواجاً بالآلاف، غُيبوا في السجون، بعضهم عشرين سنة.
أصابت تلك الاعتقالات الناس بحالةٍ من الذعر الأخرس، بل أصبحت لدى بعضهم حالة رهيبة من العُصاب النفسي، تُسمى التماهي مع المُعتدي. وقد أبدع مصطفى حجازي في كتابيه "سيكولوجية الإنسان المقهور" و"سيكولوجية الإنسان المهدور" في تحليلها، وهي أن هول الذعر ممن يمثلون الأجهزة الأمنية يجعل المواطن يبرّر لها استبدادها، ويلوم كل من تجرأ مُعترضاً أو مُخالفاً الرأي الوحيد السائد في سورية. بل يتعمد بعض هؤلاء من ضحايا حالة التماهي هذه أن يجهروا بأن الأجهزة الأمنية على حقّ في اعتقال الشبان الذين سيخرّبون الوطن بأفكارهم المُعادية لسياسة الممانعة والمقاومة التي تمثلها سورية وحدها! ومفهوم المؤامرة أحد ركائز الأجهزة الأمنية في سورية، فكل رأي مُخالف للرأي الأوحد مؤامرة، وصاحبه مدفوع من الخارج، وربما يقبض أموالاً لتخريب البلد، حتى أن مئات الشبان، ومعظمهم دون الثامنة عشرة، اعتقلوا بسبب جرأتهم على تصوير المُظاهرات السلمية بالموبايل، والأكثر إيلاماً الحالة النفسية التي يشعر بها معظم السوريين بأنهم متهمون حتى يثبت العكس، كما لو أن السوري مُضطر لتقديم براءة ذمةٍ يوميةٍ للأجهزة الأمنية، ولأن يسلمها، بكل رضى، عنقه، لكي لا تعتقله ويعدها ألا يفكّر، وبأن لا يتكلم إلا عن نظرية المؤامرة، ولا يؤمن إلا بالله عز وجل، وبأن سورية دولة الممانعة والمقاومة ضد العدو الإسرائيلي.
هذا هو النمط الذي تم فبركة السوري على أساسه عقوداً. لكن، بعد أن انتفض السوريون مطالبين بالحرية، لم يعد هذا السؤال مقبولاً لدى الكتاب الذين ينتقدون النظام وأجهزته الأمنيه: هل ستجرؤ وتعود إلى سورية. وكم أحزنني حين راهن أصدقاء ومعارف على عودتي إلى سورية بعد نشر مقالي "مؤامرة بندر بن سلطان" (العربي الجديد، 23/12/2014)، عن المسرحية الهزلية، حرق المسؤولين في المشفى الوطني في اللاذقية هضبةً من حبوب الهلوسة (كما ادّعوا)، أرسلتها إليهم قناة الجزيرة. ثم مقالات أخرى، وصفت في أحدها شاحنةً محملة بأكوام جثثٍ مشوهة لشبان قُتلوا بالبساطة التي تُقتل فيها الحشرات، مرّت تستعرض بضاعتها في شوارع اللاذقية، ليرى الناس مصير الإرهابيين(!). بعد كل مقال لأصدقائي الكتاب الذين أصرّوا على البقاء في سورية، والتحدّث بحرية، مستعدين لدفع ثمن كلمة الحق، يتساءل السوريون: هل ستجرؤون على العودة إلى سورية، في كل مرة تغادرونها وتكتبون بجرأة؟ وقاطع سوريون مذعورون هؤلاء الكتاب الشجعان، وحذفوهم من صداقاتهم في "فيسبوك"، أو تعمّدوا أن يسخروا من أفكارهم، لإرضاء الأجهزة الأمنية، وإرضاء عنصر المخابرات الصغير المزروع في دماغ كل سوري؟ المنطق الغريب الذي تستعمله معظم أجهزة المخابرات في سورية حين يستدعون كاتباً، بسبب مقالٍ لم يعجبهم: لا يجوز نشر الغسيل الوسخ أمام العالم. .. ما مهمة الكتابة إن لم تنشر الغسيل الوسخ، وتحك عن الفساد والسلبيات في مؤسسات الدولة؟.
سأعود إلى سورية، مع أصدقائي الكتاب الذين يعتبرون الكتابة شرفاً، وكلمة حق، ودفاعاً عن حقوق الإنسان بالحرية والعيش الكريم. وسنستمر بنشر الغسيل الوسخ أمام عيون العالم كله.