10 نوفمبر 2024
العنصرية تتمدّد
"تُتحِفُنا" كثيرٌ من وسائل الإعلام والصحف اللبنانية بجرعاتٍ عاليةٍ من المواقف أو التعليقات التي يمكن أن يعتبرها جزءٌ كبيرٌ من المراقبين، دونما انحياز، بأنها ذات حمولة عنصرية كبيرة تجاه اللاجئين السوريين خصوصاً، وتجاه العمالة الأجنبية عموماً. وتحفل وسائل التواصل الاجتماعي بتعليقاتٍ شاجبة، وبردود على هذه التعليقات شاجبة شجبها، وبردودٍ على الردود مؤكدة شجبها لشجب الشجب. إنها سلسلة الشيطان.
في الأيام الأخيرة، وفي ظل أحداثٍ عالميةٍ تفوح بالتطرّف وبالعنصرية الرسمية التقليدية والمستحدثة، ازداد التركيز على ما يخرج في الإعلام التقليدي أو التواصلي محمّلاً بما "لذّ وطاب" من نفحاتٍ عنصريةٍ تحريضيّة. ويستتبع الفعل ردود أفعالٍ تكاد، في مجملها، تلبس لبوس ما ترد عليه تبريراً أم تنديداً.
في برنامجٍ "فكاهي" تبثّه محطةٌ تنطق باسم مجموعة سياسية أوصلت رئيسها إلى قصر بعبدا، تمّت إهانة شاب، تجمع التعليقات على أنه سوري، بطرائق مختلفة بعيداً عن أية "فكاهة ولا ما زية" كما كان يقول الراحل أبو عنتر (ناجي جبر). وفي برنامج "فكاهي" آخر، على شاشةٍ أخرى، تظهر الممثلة السمجة مع "تطبيق" على هاتفها الذكي، يستطيع التمييز بين العامل السوري والآخر اللبناني، سعياً إلى توظيف الأخير.
كانت الإهانة المصوّرة تبحث عن إثارة ضحك المشاهد الذي ينتمي إلى هذا الصنف من التهريج الممجوج. وليس الأمر حكراً على هذه المجموعة من الناس، فلا يجب أن ننسى أن التهكم من "الضعاف" ومن المختلفين كان يلازم البشرية منذ ساعاتها الأولى، قبل أن تأتي القوانين لتنظمه ولتحدّده. فكثيرون من أغبياء الحكم في العصور الغابرة كانوا يستقدمون "المختلف"، جسدياً أو لونياً، إلى بلاطهم حتى يتمتعون بدقائق من الضحك الغبي الذي يُميّز المستبد كما المتمجّد.
ليست "الإباحية" العنصرية حكراً على شاشةٍ تجمعٍ سياسياً يكره السوريين شعباً ويتحالف مع قيادتهم السياسية، ومن يعمل على حمايتها من قوى مسلحة محلية وإقليمية ودولية. إنها تتمدّد على مستويات مختلفة، فنجد مثلاً بلدياتٍ لا تخجل من استعراض إعلاناتٍ تحظر تجوّل
السوريين في المساءات اللبنانية. ويتذرّع بعضٌ من رؤساء البلديات بأن السوري "لا يتمالك نفسه عند لقاء سيدة من دون حجاب"، لأنه غير معتادٍ على ذلك في بلده (...). ويُبدع مسؤولٌ آخر بإسناد تلوث هواء بيروت العاصمة إلى سوريين فيها. كما، وفي حديث جدي وليس فكاهيا، يتحدّث مسؤول آخر عن تأثير السوريين على "الانسجام الاجتماعي" اللبناني الذي تُضرب فيه الأمثلة (...).وينضم تقرير البنك الدولي حول حالة الطرق المأساوية في لبنان، ويعزوها إلى تزايد أعداد السوريين، والذين وإن لم يمتلكوا سيارات ترهق إسفلت الطرق اللبنانية، إلا أنهم، والكلام للتقرير الذي أعدّه خبراء لبنانيون أشاوس، يتلقون مساعداتٍ غذائية تحملها شاحنات ثقيلة الوزن تؤثّر على حالة الطرق (...).
مؤسف أن يضطر بعض المُحرجين من تلكم الممارسات الفاحشة إلى تذكيرنا، نحن السوريين، بما يسمونه "صمتنا" إزاء مأساتهم خلال الهيمنة السورية على بلدهم. فعبارة "أين كنتم عندما كنا تحت عسف جيشكم" تتكرّر على أكثر من صعيد. وهي لا تخرج عمن يُبرّر التصرفات العنصرية أبداً، فهؤلاء لا يجدون حرجاً في الدفاع عنها والافتخار بها، بل إنها تصدر عمّن هم في خندق التضامن مع السوريين ومطالبهم ومآسيهم. يقابل هذ الأسف أسفٌ آخر على ما يصدر من بعض السوريين الذين يُذكّرون، في معرض تعليقهم على عنصرية البعض، اللبنانيين بحفاوة الاستقبال والترحيب إبّان حروب لبنان الصغيرة والكبيرة.
خطابان دفاعيان تبريريان لا فائدة منهما إلا التخندق العاجز. ولا تفيد كل التبريرات والإحالات التاريخانية في رفع الوصم بالعنصرية على أداء تصرفٍ ما، فالعنصرية مرضٌ قديمٌ قدم التاريخ، وهو مكمون في نفسية كل واحد منا لا تشذبه أو تهذبه إلا الثقافة والوعي. عنصرية بعض اللبنانيين المتلفزة والممارسة، بقدر ما هي قميئةٌ وتستحق التنديد، فهي تكاد تحجب عنا عنصرية أبناء الوطن نفسه تجاه بعضهم. كما عندما يأنف سوريون/ كنديون عن استقبال اللاجئين الجدد ومساعدتهم، ويصفونهم بعباراتٍ طبقيةٍ/ عنصرية بأصحاب "الشحاطات"، وعندما يصرخ رجل الأعمال السوري ببائعة الورد عند إشارة المرور في بيروت : "انقلعي"، وعندما يفرح بعضنا لموت بعض آخر في المدينة الواحدة (حلب نموذجاً).
التحوّل عن اللغة الهجومية أو التبريرية او الدفاعية لدى مثقفي البلدين يُساعد على الخروج من عنق الزجاجة القذرة وطرح البدائل، الفكرية على الأقل، في مواجهة العنصرية المتجدّدة. والإحالة إلى البعد الاقتصادي/ الطبقي في تحليل المشهد جائزةٌ أيضاً، وتستحق التوقف بشكل
أعمق من مجرد التحدث عن النوايا وأغلفة الأفكار ولبوسها. كما أن العمل على ترشيد البحث في طبيعة أنظمة الاستبداد، السياسي في سورية، والاقتصادي/ الطائفي في لبنان، يساعد على بناء أرضية مشتركة من الوعي السامي عن ردود الأفعال والأقوال غير المتزنة التي تصل، أحياناً، إلى العنف اللفظي بين أبناء الصف الواحد، أي مثقفي البلدين المؤمنين بالقيم نفسها، والمنتمين إلى صفوف البحث عن التغيير نحو غدٍ أفضل.
آهٍ، ماذا فعل الاستبداد بنا، وما كنا بمقاومين.
في الأيام الأخيرة، وفي ظل أحداثٍ عالميةٍ تفوح بالتطرّف وبالعنصرية الرسمية التقليدية والمستحدثة، ازداد التركيز على ما يخرج في الإعلام التقليدي أو التواصلي محمّلاً بما "لذّ وطاب" من نفحاتٍ عنصريةٍ تحريضيّة. ويستتبع الفعل ردود أفعالٍ تكاد، في مجملها، تلبس لبوس ما ترد عليه تبريراً أم تنديداً.
في برنامجٍ "فكاهي" تبثّه محطةٌ تنطق باسم مجموعة سياسية أوصلت رئيسها إلى قصر بعبدا، تمّت إهانة شاب، تجمع التعليقات على أنه سوري، بطرائق مختلفة بعيداً عن أية "فكاهة ولا ما زية" كما كان يقول الراحل أبو عنتر (ناجي جبر). وفي برنامج "فكاهي" آخر، على شاشةٍ أخرى، تظهر الممثلة السمجة مع "تطبيق" على هاتفها الذكي، يستطيع التمييز بين العامل السوري والآخر اللبناني، سعياً إلى توظيف الأخير.
كانت الإهانة المصوّرة تبحث عن إثارة ضحك المشاهد الذي ينتمي إلى هذا الصنف من التهريج الممجوج. وليس الأمر حكراً على هذه المجموعة من الناس، فلا يجب أن ننسى أن التهكم من "الضعاف" ومن المختلفين كان يلازم البشرية منذ ساعاتها الأولى، قبل أن تأتي القوانين لتنظمه ولتحدّده. فكثيرون من أغبياء الحكم في العصور الغابرة كانوا يستقدمون "المختلف"، جسدياً أو لونياً، إلى بلاطهم حتى يتمتعون بدقائق من الضحك الغبي الذي يُميّز المستبد كما المتمجّد.
ليست "الإباحية" العنصرية حكراً على شاشةٍ تجمعٍ سياسياً يكره السوريين شعباً ويتحالف مع قيادتهم السياسية، ومن يعمل على حمايتها من قوى مسلحة محلية وإقليمية ودولية. إنها تتمدّد على مستويات مختلفة، فنجد مثلاً بلدياتٍ لا تخجل من استعراض إعلاناتٍ تحظر تجوّل
مؤسف أن يضطر بعض المُحرجين من تلكم الممارسات الفاحشة إلى تذكيرنا، نحن السوريين، بما يسمونه "صمتنا" إزاء مأساتهم خلال الهيمنة السورية على بلدهم. فعبارة "أين كنتم عندما كنا تحت عسف جيشكم" تتكرّر على أكثر من صعيد. وهي لا تخرج عمن يُبرّر التصرفات العنصرية أبداً، فهؤلاء لا يجدون حرجاً في الدفاع عنها والافتخار بها، بل إنها تصدر عمّن هم في خندق التضامن مع السوريين ومطالبهم ومآسيهم. يقابل هذ الأسف أسفٌ آخر على ما يصدر من بعض السوريين الذين يُذكّرون، في معرض تعليقهم على عنصرية البعض، اللبنانيين بحفاوة الاستقبال والترحيب إبّان حروب لبنان الصغيرة والكبيرة.
خطابان دفاعيان تبريريان لا فائدة منهما إلا التخندق العاجز. ولا تفيد كل التبريرات والإحالات التاريخانية في رفع الوصم بالعنصرية على أداء تصرفٍ ما، فالعنصرية مرضٌ قديمٌ قدم التاريخ، وهو مكمون في نفسية كل واحد منا لا تشذبه أو تهذبه إلا الثقافة والوعي. عنصرية بعض اللبنانيين المتلفزة والممارسة، بقدر ما هي قميئةٌ وتستحق التنديد، فهي تكاد تحجب عنا عنصرية أبناء الوطن نفسه تجاه بعضهم. كما عندما يأنف سوريون/ كنديون عن استقبال اللاجئين الجدد ومساعدتهم، ويصفونهم بعباراتٍ طبقيةٍ/ عنصرية بأصحاب "الشحاطات"، وعندما يصرخ رجل الأعمال السوري ببائعة الورد عند إشارة المرور في بيروت : "انقلعي"، وعندما يفرح بعضنا لموت بعض آخر في المدينة الواحدة (حلب نموذجاً).
التحوّل عن اللغة الهجومية أو التبريرية او الدفاعية لدى مثقفي البلدين يُساعد على الخروج من عنق الزجاجة القذرة وطرح البدائل، الفكرية على الأقل، في مواجهة العنصرية المتجدّدة. والإحالة إلى البعد الاقتصادي/ الطبقي في تحليل المشهد جائزةٌ أيضاً، وتستحق التوقف بشكل
آهٍ، ماذا فعل الاستبداد بنا، وما كنا بمقاومين.