العمليات التركية شمالي العراق: محاولات دفع بغداد للتصعيد

16 اغسطس 2020
دخلت العملية التركية شهرها الثالث (الأناضول)
+ الخط -

دخلت العمليات العسكرية الجوية والبرّية التركية في عمق الأراضي العراقية، ضمن إقليم كردستان، شمالي البلاد، شهرها الثالث على التوالي، ويجري ذلك في نطاق إجمالي يصل إلى نحو 60 كيلومتراً، ضمن الشريط الحدودي الذي ينشط فيه مسلحو "حزب العمال الكردستاني"، في أطول عملية عسكرية تركية متواصلة داخل المناطق العراقية منذ تسعينيات القرن الماضي، وسط محاولات إقليمية ودولية للضغط على بغداد للرد، وإشارات قوية في المقابل بوجود تواصل بينها وبين أنقرة حول هذه العملية. وبدأت عملية "مخلب النسر" في 15 يونيو/حزيران الماضي، واقتصرت في يوميها الأولين على سلاح الجو التركي، الذي استهدف مواقع ومعسكرات "الكردستاني" في زاخو والزاب وسنجار ومخمور، بضربات "صدمة" للبنى التحتية للحزب، خصوصاً مخازن سلاحه. وفي 17 يونيو، بدأت عملية "مخلب النمر" البرّية، حيث توغلت قوات تركية خاصة إلى مناطق في العمق العراقي، وخاضت اشتباكات عنيفة مع مسلحي "الكردستاني"، واستهدفتهم في مناطق حفتانين وبرادوست وزاخو وسيدكان وسوران، إضافة إلى جبال قنديل، شمال وشرق دهوك.
ماذا تحقق عسكرياً؟
بحسب مسؤولين في محافظة أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، فإن القوات التركية نجحت، خلال الشهرين الماضيين، في تشكيل أقرب ما يكون إلى شريط حدودي آمن ومنزوع السلاح على حدودها مع العراق، وبمسافات متفاوتة، نظراً لوعورة المناطق الجبلية بين البلدين، إذ تجدها بين 3 كيلومترات كعرض لهذا الشريط في مناطق، وتصل في أخرى إلى 7 كيلومترات، وتشمل بعضها قرى حدودية عراقية كردية. في المقابل، فإن مناطق أخرى لا تزال تشهد اختراقات وهجمات مضادة من مسلحي "الكردستاني".

نجحت القوات التركية في تشكيل شريط حدودي آمن ومنزوع السلاح على حدودها مع العراق
 

ميدانياً أيضاً، نجحت القوات التركية في إبعاد مسلحي "حزب العمال الكردستاني" عن مناطق عدة، أبرزها قورنان وميركرشيان وسوركه، ضمن منطقة برداوست، كما سيطرت على أهم المرتفعات الجبلية الحدودية بين البلدين، وهي جبل شاقولي في زاخو، وجبل لينك ضمن سلسلة جبال متين المطلة على بلدة ديرلوك (60 كيلومتراً شرقي دهوك)، عدا إجبار مسلحي "الكردستاني" عن التخلي عن مواقع تقليدية لهم، والانسحاب باتجاه سلسلة جبال قنديل، حيث المثلث العراقي التركي الإيراني. في المقابل، فإن خسائر مسلحي الحزب البشرية، التي بلغت عشرات العناصر، بينهم قيادات وعناصر بارزة، تضاف إلى خسائره اللوجستية الأخرى، والمتمثلة في مخازن السلاح والعتاد والصواريخ التي دمرتها الطائرات التركية في حرب استخبارية بدا واضحا اختراق أنقرة للحزب من خلالها.

وقال الخبير بالشأن الأمني الكردي في محافظة دهوك، عباس برواري، لـ"العربي الجديد"، إن "الأتراك يحققون تقدماً، وإن كان غير سريع، وهو ما جعلهم يواصلون الهجوم لإنهاك الحزب أكثر". ولفت الخبير بالشأن الكردي إلى أن "العملية الحالية مختلفة تماماً عن أي من سابقاتها من ناحية عسكرية على الأقل، فمن المرجح أنها سترسم خارطة جديدة لتواجد حزب العمال الكردستاني، تجعل أنقرة من خلالها هذا الحزب يشكل مشكلة عراقية أكثر من كونها تركية، بمعنى أنها ستدفعه إلى داخل المناطق العراقية أكثر بعيداً عن حدودها لتبقي ملفه والتعامل معه، باعتبارها مشكلة الدولة العراقية، وهو ما يجب أن تعيه بغداد". وأكد برواري أن "مهمة أربيل الآن هي أن تمنع تمدد الحزب داخل الإقليم، لكن يبدو أنها غير ضامنة لذلك، كون مجريات الاشتباكات والقصف تفرضان واقعاً مغايراً". وأشار في هذا الصدد إلى أنه "تمّ قبل أيام رصد تواجد للحزب في مناطق داخل بلدة سيدكان لم يكن متواجداً فيها من قبل، وهذا دليل على أنه يخسر مناطق، فيضطر للانكفاء إلى مناطق جديدة، ما يجعل السكان يدفعون الثمن بالمحصلة".
من جهته، أكد مسؤول في قوات اللواء 80 في البشمركة، المنتشر على تخوم منطقة حفتانين شمال أربيل، لـ"العربي الجديد"، أن العملية التركية منحت أنقرة سيطرة أكبر داخل الأراضي العراقية، ما جعلها تتمكن حالياً من استهداف أي مكان يتواجد به مسلحو الحزب بالمدفعية، خصوصاً بعد سيطرة الجيش التركي على قمة جبل شاقولي، ما سهّل له الإشراف على مناطق تصل إلى عمق 30 كيلومتراً من المناطق الحدودية.
تواصل غير معلن
الحدث الذي فاجأ بغداد كثيراً ودفعها إلى استدعاء السفير التركي لديها فاتح يلدز، كما تسبّب في قرار إلغاء زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، كان القصف التركي يوم الثلاثاء الماضي الذي أودى بحياة ضابطين عراقيين من قوات حرس الحدود، والذي تبين في ما بعد أنه استهدف اجتماعاً كان يجري بين عكيد جرزان، القيادي في "الكردستاني"، وضباط حرس الحدود العراقي بهدف الاتفاق على نشر وحدات من "الحرس" بشكل متاخم لمناطق نشاط "حزب العمال الكردستاني" في منطقة سيدكان، من دون أي احتكاك بين الجانبين.
وعلى الرغم من ذلك، لم تتراجع أنقرة عن تأكيد أهمية عملياتها، وهي ترى أن على بغداد منع استخدام الحزب أراضيها لتنفيذ اعتداءات تستهدف تركيا من خلالها، مشيرة إلى أن عملياتها الحالية في عمق الأراضي العراقية تقع في إطار "مبدأ الدفاع عن النفس". وذكرت وزارة الخارجية التركية، عقب مقتل الضابطين العراقيين على الحدود، أن "أنقرة ستتخذ التدابير اللازمة لحماية أمن حدودها، في حال واصل العراق تجاهل وجود عناصر حزب العمال الكردستاني على أراضيه"، موضحة في بيان أن "إرهابيي حزب العمال يستهدفون تركيا من خلال المواقع التي يتمركزون فيها داخل الأراضي العراقية منذ سنوات طويلة، وأن هذه المنظمة تتحدى في الوقت ذاته سيادة العراق ووحدة أراضيه واستقراره".
وأكد مسؤول عراقي بارز في بغداد، لـ"العربي الجديد"، وجود تواصل بين حكومة بلاده والجانب التركي بشكل غير معلن حيال العمليات القائمة، وأيضاً بشأن القصف الأخير، لافتا إلى أن العراق لا يريد الدخول في مواجهة أو أزمة مع تركيا لوجود ملفات حرجة ومهمة، أبرزها مياه دجلة والفرات وقضية ملء سد أليسو، وموضوع تصدير النفط العراقي عبر ميناء جيهان التركي، فضلاً عن مشروع حديث لاستيراد الكهرباء من تركيا. ولفت أيضاً إلى "وجود تفهم عراقي لموقف تركيا في مسألة مواجهتها لحزب العمال".

لا يريد العراق الدخول في مواجهة أو أزمة مع تركيا لوجود ملفات حرجة ومهمة بين البلدين، أهمها ما يتعلق بالمياه

وأكد المصدر أن الجانب التركي يتواصل حالياً بشأن مقتل الضابطين العراقيين ويتعامل مع الحادث على أنه حصل بسبب سوء التنسيق وعدم إبلاغ العراق لتركيا بوجود عناصر أمن نظاميين في منطقة ساخنة جرى التعامل معها مسبقاً، إلا أنها تقع خارج سلطة الدولة العراقية، متحدثا عن محاولات تحشيد ودفع من أطراف عدة، بينها عربية وأخرى أجنبية، أبرزها الإمارات ومصر وفرنسا للعراق، من أجل اتخاذ موقف أكثر تشدداً تجاه أنقرة بعد الحادثة، لكن المصلحة الحالية لا تقتضي ذلك. ونوه المسؤول إلى "تعاون السفير التركي في بغداد مع الخارجية العراقية في ملف العملية العسكرية شمال البلاد".
وكانت باريس طلبت يوم الخميس الماضي "توضيح" ملابسات الهجوم الجوي التركي الذي أودى بحياة الضابطين العراقيين. ونددت الخارجية الفرنسية "بهذا التطور الخطير الذي يجب توضيحه بشكل كامل". من جهته، ردّ السفير التركي في العراق فاتح يلدز، متوجهاً للفرنسيين بقوله "لا خبز لكم في هذا المكان"، مضيفاً عبر "تويتر" أن "كلامي هذا إلى كافة الجهات، وفي مقدمتهم الإقليمية والدولية، التي تنتظر الفرصة بفارغ الصبر لتفريق الشعبين التركي والعراقي: سيستمر هذان الشعبان اللذان سبق أن وقفا جنبا إلى جنب في الأوقات الصعبة، في أن يكونا معاً، على الرغم من كل الجهود التي تبذلونها". من جهته، أعلن عضو تحالف "الفتح" الذي يضم الأجنحة السياسية لـ"الحشد الشعبي"، النائب عامر الفايز، أن "البرلمان سيفتح ملف التجاوزات التركية التي باتت تهدد جميع العراقيين"، معتبراً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "تركيا تمادت في التجاوز على السيادة العراقية بسبب ضعف القرار الحكومي في بغداد، كما أن هناك جهات سياسية تتعامل مع تركيا وفقاً لمصالحها، وتسعى إلى تلميع صورة أنقرة وعدم تحويل قضية مقتل الضابطين العراقيين إلى أزمة". وحمّل الفايز أيضاً حكومة إقليم كردستان المسؤولية عن التحديات الأمنية التي تواجه أراضيها، متحدثاً عن "صمت مريب وغير مفهوم من قبل المسؤولين الأكراد بشأن الاعتداءات الكثيرة التي وقعت"، وموضحاً أن "السيادة العراقية هي مسؤولية تقع على عاتق الجميع، ولا بد من تضافر الجهود الوطنية من أجل منع سقوط المزيد من الضحايا العراقيين". وأعرب عن "الخشية من أن تكون هذه العمليات باتفاق مع بغداد وأربيل، وإذا كان ذلك، فيعني أن الحكومات غير مهتمة بدماء المواطنين".
وفي إطار تبادل تحميل المسؤولية، قال عماد باجلان، وهو عضو الحزب "الديمقراطي الكردستاني"، إن "بغداد تتحمل مسؤولية ما يجري من عمليات عسكرية وتهجير وتشريد للأسر الكردية العراقية، كونها العاصمة الحامية للقانون والدستور ومصدر القرارات الأمنية". ورأى باجلان، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هناك جهات سياسية وأخرى مسلحة عراقية تدفع باتجاه المواجهة العسكرية مع تركيا، وتأزيم الأوضاع لغايات سياسية، ولذلك نحن نجد أن الحل الأفضل هو اللجوء إلى طاولة الحوار من أجل التوصل إلى مفاوضات مرضية لجميع الأطراف وعدم الاستمرار باستخدام لغة السلاح".
كما رأى المحلل العراقي أحمد الشريفي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "العراق غير جاهز للرد على تركيا عسكرياً، لأن ذلك يعني المخاطرة، كما أن البلاد لم تعد تحتمل أي نوع من المواجهات المسلحة، وهناك تأكيدات كثيرة على أن بغداد على علمٍ ودراية بكل ما يحدث شمال العراق"، موضحاً أن "حكومة مصطفى الكاظمي قد تتمكن من خلال أجهزتها الاستخبارية، خصوصاً أن جهاز الاستخبارات لا يزال بإدارته، من التأسيس لصيغة حوار رباعي بين حكومتي بغداد وأربيل وحزب العمال الكردستاني والحكومة التركية، ما يجنب العراق استمرار تحول أراضيه إلى ساحة لتصفية الحسابات".