تتبادر إلى الذهن، في باكستان، كلّما جرى الحديث عن العمليات الانتحارية التي تنفذها جماعات وتنظيمات متطرفة مسلحة داخل هذا البلد، تلك الجماعات التي تستند في أيديولوجياتها إلى الفكر الديني، مثل حركة "طالبان" - باكستان، وتنظيم "داعش". هذه المساحة التي تفرد في الدوائر السياسية والإعلامية والشعبية لتلك الحركات، خصوصاً حركة "طالبان"، تُغيّب مجموعات تمرد محلية، وذات صبغة قومية وانفصالية، في إقليم بلوشستان، وعاصمته كويتا، والتي ارتفعت وتيرة عملياتها الانتحارية أخيراً. هذه العمليات تستهدف في الغالب المصالح الاقتصادية في البلاد، وباتت تضرب بشكل خاص المشاريع الصينية – الباكستانية، كالممر التجاري، بحجة أن تلك المشاريع تُحرم منها بلوشستان، فيما تستفيد منها بقية الأقاليم الباكستانية الأخرى، والتي، بحسب الانفصاليين، تستغل الموارد الطبيعية الموجودة في هذا الإقليم، وأهمها الغاز، بينما يعيش سكان بلوشستان في فقرٍ مدقع.
ولا تعد مظاهر العنف جديدة في إقليم بلوشستان، في أقصى الجنوب الشرقي لباكستان، والواقع على الحدود مع كلّ من أفغانستان وإيران. فمنذ عقدين أو أكثر، يعاني هذا الإقليم من أعمال عنف متواصلة، جرّاء وجود الجماعات المسلحة فيه مثل "طالبان" و"داعش"، وبسبب الحرب الطائفية، وظهور الحركات المسلحة الانفصالية، والتي يعد "جيش تحرير بلوشستان" أكبرها وأهمها. هذه الجماعة تعود إلى الواجهة اليوم بعد تبنيها هجوماً انتحارياً استهدف بورصة باكستان في مدينة كراتشي، العاصمة الاقتصادية للبلاد، في 29 من شهر يونيو/حزيران الماضي، وأدى إلى مقتل سبعة أشخاص. وعقب الهجوم مباشرة، اتهمت باكستان الهند بالتخطيط له، ودعم "جيش تحرير بلوشستان" وجميع الحركات الانفصالية البلوشية الأخرى.
يرفع الانفصاليون البلوش من وتيرة استهدافهم للمشاريع الصينية الباكستانية كالممر التجاري
تاريخياً، بدأت حركة الانفصال والمقاومة المسلحة ضد الحكومة والجيش الباكستاني في بلوشستان، في سبعينيات القرن الماضي، إبان حكم الرئيس الباكستاني الأسبق ذو الفقار علي بوتو، ودارت اشتباكات بين مقاتلي هذه الحركة والقوات المسلحة الباكستانية. لكن هذه الاشتباكات هدأت بعد الانقلاب العسكري على بوتو، على يد القائد العسكري الجنرال ضياء الحق، في الخامس من شهر يوليو/تموز 1977، وذلك نتيجة مفاوضات بين الحكومة وبين الانفصاليين نتج عنها القضاء على الحراك المسلح في بلوشستان بشكل كامل.
لكن في عهد الرئيس العسكري الأخير في البلاد، برويز مشرف، وتحديداً في عام 2002، عاد الحراك المسلح في بلوشستان ضد السلطة المركزية، وذلك إثر اعتقال الحكومة الباكستانية الزعيم القومي نواب خير بخش مري، في قضية قتل القاضي نواز مري. وبدأ البلوش رداً على ذلك بمهاجمة المنشآت الحكومية، وعلى نحو متواصل، وتبنى "جيش تحرير بلوشستان" معظم تلك الهجمات، التي غطّت مع الوقت معظم مناطق الإقليم.
في عام 2006، صنّفت الحكومة الباكستانية "جيش تحرير بلوشستان" منظمة محظورة، مؤكدة أن نجل الزعيم القومي خير بخش مري، ويدعى بالاج بخش مري، هو من يقود تلك الجماعة. وفي العام التالي، قالت إسلام آباد، إنها قتلت بالاج بخش مري، وهو ما أكدته الجماعة لاحقاً، متحدثة عن مقتل زعيمها في اشتباك مسلح مع القوات الباكستانية قرب الحدود مع أفغانستان.
وبعد قتل زعيم "جيش تحرير بلوشستان"، أعلنت الحكومة الباكستانية، أن شقيقه، ويدعى نوابزاده حيربيار مري، وكان مقيماً في بريطانيا، هو الذي شرع في قيادة المنظمة، لكن الأخير نفى ذلك. وتبين لاحقاً أن القيادي البارز في المنظمة، أسلم بلوش، هو من تسلّم قيادتها. وبعد فترة وجيزة، أصيب بلوش بجراح خلال اشتباك مع الجيش الباكستاني، ونقل إلى الهند لتلقي العلاج، ما أدى إلى خلق تصدعات بينه وبين قياديين آخرين في التنظيم. وقتل بلوش في هجوم انتحاري بمدينة عينو مينه، في إقليم قندهار، جنوب أفغانستان، في ديسمبر/كانون الأول 2018. وأكد التنظيم آنذاك مقتل زعيمه بلسان المتحدث باسمه جنيد بلوش، الذي أعلن أن عدداً من قياديي التنظيم قتلوا أيضاً مع زعيمهم، وهم تاجو مري، رحيم مري، وناصر بلوش. وجرى الحديث عن تولي تولاه بشير زيب قيادة "جيش تحرير بلوشستان".
إلى جانب استهدافها لقوات الأمن والجيش الباكستاني، والعمال المتحدرين من إقليم البنجاب، والذين يأتون إلى بلوشستان للعمل أو تسلم وظائف، تركز منظمة "جيش تحرير بلوشستان" على ضرب المشاريع الاقتصادية في المنطقة، لا سيما الصينية - الباكستانية، وتحديداً المرتبطة بالممر التجاري الصيني – الباكستاني. ويعود ذلك إلى سببين رئيسيين: أولاً لأن التنظيم، بل جميع الانفصاليين، يرون أن سكان إقليم بلوشستان محرومون من أي نوع من التسهيلات المعيشية، ما عدا شريحة ضئيلة منهم، وأن الحكومة المركزية لا تولي اهتماماً كبيراً لتطوير هذا الإقليم، مع أنه غني بالموارد الطبيعية مثل الغاز وغيره، علاوة على موقعه الاستراتيجي المهم. ويقول الانفصاليون إن ثروات بلوشستان تنقل إلى أقاليم أخرى، وهم محرومون منها.
إضافة إلى ذلك، يواجه الممر التجاري الصيني - الباكستاني كما جميع المشاريع الصينية، بحساسية في دول الجوار والمنطقة، وتتهم إسلام آباد تلك الدول، وعلى رأسها الهند، بمساندة الانفصاليين. وبشكل عام، يمكن القول إن ثمة اهتماماً كبيراً داخل باكستان على المستويين الحكومي والشعبي، بالمشاريع الصينية، وبأهميتها في إطار تطوير البنية الاقتصادية في باكستان، ولذلك فإن استهداف تلك المشاريع بعد وسيلة ضغط أساسية في يد الانفصاليين البلوش، بهدف إرضاخ الحكومة لمطالبهم، وعلى رأسها ملف المفقودين قسرياً، وهم آلاف من أبناء العرقية البلوشية، وفق حديث الحركات الانفصالية البلوشية.
يتمتع "جيش تحرير بلوشستان" بجذورٍ راسخة في المنطقة وبين قبائلها
في السنوات الأخيرة، لجأ تنظيم "جيش تحرير بلوشستان" إلى خيار تنفيذ العمليات الانتحارية. ويقال إن أسلم بلوش هو مطلق هذا التوجه، وقد نفذ أول عملية انتحارية نجله، وفق ما أكدت الحكومة الباكستانية. ففي أغسطس/آب 2018، نفذ "جيش تحرير بلوشستان" أول عملية انتحارية مسّت مباشرة بالمصالح الصينية، وطاولت مهندسين صينيين وعاملين في مشروع صيني باكستاني في منطقة جاغي. وحينها، أعلنت باكستان أن منفذ العملية هو نجل أسلم بلوش، الذي قتل خلالها، كما أدت إلى سقوط عدد من الإصابات.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني من العام ذاته، نفذ 3 انتحاريين هجوماً استهدف القنصلية الصينية في كراتشي، ما أدى إلى مقتل 4 أشخاص، وفق السلطات الباكستانية، التي أضافت أن أسلم بلوش هو من خطط للعملية، قبل مقتله بهجوم انتحاري في قندهار.
ومع مقتل أسلم بلوش، كان متوقعاً توقف العمليات الانتحارية وهو ما لم يحصل. وفي شهر مايو/أيار من العام 2019، نفذ "جيش تحرير بلوشستان" هجوماً انتحارياً استهدف فندق "كانتينانتل" في مدينة كودار، حيث كانت الشركات الصينية منشغلة بالعمل في ميناء المدينة. وأسفر الهجوم على الفندق، الذي كان يعج بالمهندسين الصينيين، عن مقتل 8 أشخاص، بينهم ثلاثة انتحاريين.
أما الهجوم الانتحاري على البورصة الباكستانية في 29 يونيو الماضي، فنفذه التنظيم بواسطة 4 من عناصره. ووفق مراقبين، فإنه على الأرجح لن يكون الهجوم الأخير للجماعة، لأن العداء بينها وبين إسلام آباد مستفحل ولم ينته، ولما لـ"جيش تحرير بلوشستان" من جذورٍ راسخة في المنطقة وبين قبائلها. وتستغل الجماعة المسلحة حالة الفقر والبطالة السائدة بين أبناء المنطقة. وعلى الرغم من أن حكومة عمران خان، أبدت أخيراً اهتماماً كبيراً بالإقليم من الناحيتين الاقتصادية والتجارية، إلا أنه لا تلوح في الأفق حتى الآن أي بوادر سياسية لحلحلة قضية الإقليم، وملف الانفصاليين فيه بشكل أساسي، وقد يكون التدخل الخارجي من أهم الأسباب التي تقف وراء ذلك.