أزمات عدة عصفت بلبنان منذ عام 2019، آخرها انفجار مرفأ بيروت، الشهر الماضي. هذه الأزمات أثّرت بشكل كبير على الفئات الفقيرة، ومن أبرزها العمال الأجانب، ممن يحاربون من أجل حقوق هي في الأساس ضئيلة
اضطرت العاملة الإثيوبية رومان (31 عاماً) قبل أشهر، إلى السفر مع طفلها من لبنان إلى بلدها، والطلب من أشقائها أن يبقى الطفل لديهم على أن تستكمل العمل في لبنان لثلاث سنوات إضافية. لكنّها لم تكن تدرك أنّ المرحلة الثانية من مكوثها في بيروت ستتحول إلى جحيم، بعد بدء تفشي فيروس كورونا الجديد وانهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي، لتتضاعف المأساة عقب انفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي.
تشكو رومان، التي تعمل في لبنان منذ 14 عاماً، في حديث إلى "العربي الجديد"، كيف انقلبت حياتها، على غرار الآلاف من العمال الأجانب الذين بعد نحو سبعة أشهر من المعاناة من أزمة ارتفاع الدولار وخسارة قيمة رواتبهم التي كانوا يتقاضونها بالدولار، ثم تأثير أزمة كورونا عليهم واستغناء العديد من أرباب العمل عنهم، جاء انفجار مرفأ بيروت ليشكل ضربة قاضية للعديد منهم.
بعدما انخفض مدخولها من معدل يبلغ ما بين 500 دولار و700 شهرياً إلى أقل من 100 دولار (نحو 750 ألف ليرة حالياً بحسب السعر الفعلي في السوق السوداء، و150 ألف ليرة بحسب سعر الصرف الرسمي في مصرف لبنان)، باتت رومان منذ أشهر عاجزة عن إرسال المال لأشقائها الذين يهتمون بطفلها، وهو اليوم مهدد بالحرمان من دخول المدرسة لعدم توفر الأموال. تقول بحرقة بعدما باتت تتقاضى الأجر عن عملها بالساعة بالليرة اللبنانية، وصعوبة تحويلها إلى الدولار: "كلّ ما أجنيه خلال الشهر أدفع منه إيجار المنزل وكلفة الطعام والشراب، ولا يبقى لي أيّ مال لإرساله". لكنّ مشاكلها لم تتوقف عند هذا الحد. تروي رومان، التي تقطن في محلة الكرنتينا الملاصقة لمرفأ بيروت، والتابعة لحيّ المدوّر، والتي تعدّ من بين أكثر الأماكن تضرراً بانفجار مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس/آب الماضي، إلى جانب مار مخايل والجميزة، لحظات الانفجار الأولى، عندما كانت أسفل العمارة التي تسكن فيها.
تقول: "أمر لا يصدق. بينما كنت أعمل في المقهى، حيث يلعب كبار السن الورق، سمعتُ صوت طائرة هليكوبتر، فتملّكني شعور غريب بالضيق أنّ أمراً ما سيحدث. خرجت من المقهى وبينما كنت أراقب الهليكوبتر فجأة شعرت بموجة هواء تقترب مني ثم دوى الانفجار. الدنيا تحولت إلى اللون الأسود، وبدأت الحجارة تتساقط، وملأ الغبار المكان. اختبأت تحت إحدى السيارات وعندما استوعبت ما جرى ركضت لأطمئن على صديقاتي وإحداهن حامل. تجمّعنا في الشارع وعلمنا بانفجار المرفأ، ثم اضطررنا إلى النوم في تلك الليلة في بلدة حريصا (كسروان، جبل لبنان، وسط) لدى أصدقائنا". ولدى عودتها اكتشفت رومان كيف تحطم منزلها، وتعلق: "المنزل قابل للسكن لكن لم يعد فيه أيّ أثاث".
كذلك، تتحدث الشابة الإثيوبية عن العنصرية تجاهها وتجاه العمال الأجانب في المنطقة عندما يتعلق الأمر بتوزيع المساعدات العينية والنقدية، وتقول: "نحصل على المساعدات لأنّنا نخرج ونقف أمام سيارات التوزيع، لكن عندما تأتي بعض الجمعيات لتوزيع المساعدات يخبرهم الجيران أنّنا أجانب، فيمتنعون عن تقديمها لنا". أما بشأن خسائرها المادية من جراء تحطم محتويات المنزل، فبالرغم من الكشف عليه من جانب الجيش اللبناني، تقول إنّها تدرك أنّها لن تحصل على أيّ تعويضات، لأنّ مالكة المنزل رفضت منحها ورقة تثبت أنّها تستأجره، وادعت أمام الجميع أنّ رومان تعمل في المبنى فقط.
حال ميسّر خلف سليمان الذي ينحدر من دير الزور، شرقي سورية، لا تختلف كثيراً عن رومان. يروي لـ"العربي الجديد" كيف نجا مع أفراد أسرته (أطفاله الستة وزوجته) من الانفجار بأعجوبة، بعدما انهار جزء من المنزل الذي يستأجره في الكرنتينا نظراً لتواجدهم خارج المنزل. يقول إنّه "لو لم يكن لدينا موعد لدى طبيب ثم قيامنا بزيارة لأحد أقاربنا لكان وضعنا أصعب من جارنا أحمد" في إشارة إلى اللاجئ السوري أحمد الذي انهار المنزل الذي يقطنه على أفراد أسرته، ما أدى إلى وفاة زوجته وابنتيه فيما نجت ابنتان.
يتحدث ميسّر، الذي كان يدبر أموره بصعوبة جراء وظيفته كعامل يومي في مرفأ بيروت قبل أن يسرّح من عمله قبل أشهر، عن الصعوبات اليومية التي يواجهها عقب الانفجار وحرمانه من المأوى. اضطر ميسّر إلى الإقامة لدى أحد أقاربه، فأصبحوا 15 شخصاً يعيشون في غرفتين فقط. يشعر بالضيق من جراء هذا الوضع، حتى أنّه اضطر للعودة إلى المنزل المهدم والمكوث في إحدى غرفه المتهالكة قبل أن يُطلب منه مغادرة العقار لأنّه غير آمن. يشكو من صعوبات الحياة، وحرمان أطفاله الستة من التعليم، ولا يتردد في القول إنّه فكر في الانتحار، ويعلق: "نحن في انتظار رحمة الله، لا نعلم أيّ شيء بشأن مستقبلنا".
قُتل عشرات وأصيب مئات من العمال واللاجئين الأجانب، في انفجار مرفأ بيروت، وهؤلاء يتوزعون على بلدان عدة، من بينها فلسطين، وسورية، ومصر، وإثيوبيا، وبنغلادش. لكنّ ذلك لم يمنع جمعيات عدة من التمييز ضدهم في تقديم المساعدات، ما فاقم من أوضاعهم المعيشية الصعبة. تقول إيفيتا معوض، التي تتولى تنسيق مشروع تديره جمعية "فرح العطاء" لترميم عدد من الشوارع المتضررة في حيّ المدوّر لـ"العربي الجديد" إنّ تركيز الجمعية على هذا الحيّ ينطلق من كونه من الأكثر تضرراً، ولأنّه مختلط، إذ يضم لبنانيين وعائلات سورية وعاملات إثيوبيات. تتحدث معوض عن آلية العمل والدمج بين جميع قاطني الحي يومياً من خلال النشاطات التي يقومون بها. وبينما تؤكد أنّ الجمعية لا تفرّق في توزيع المساعدات بين هذا وذاك، تتحدث عن حرص "فرح العطاء" على توعية أيّ جمعية تأتي إلى الحي حول ضرورة توزيع المساعدات على الجميع بعد رصد تعمد بعض الجمعيات استثناء غير اللبنانيين.
ويخوض العمال الأجانب، خصوصاً الإثيوبيين (معظمهم نساء)، منذ أشهر، حراكاً من أجل الضغط لترحيلهم من لبنان، لا سيما بعدما تخلى عنهم أرباب العمل ولجأوا إلى تركهم في الشوارع أو أمام السفارات بعد حرمانهم من رواتبهم التي يفترض أن تدفع لهم بموجب عقود عملهم بالدولار. وتزايدت هذه الممارسات من قبل أصحاب العمل اللبنانيين عقب انفجار مرفأ بيروت.
تقول مسؤولة التواصل والمناصرة في حركة مناهضة العنصرية، فرح البابا، لـ"العربي الجديد" إنّهم في الحركة لا يملكون أرقاماً حول عدد العمال الأجانب الذين تضرروا من جراء الانفجار "لكنّ العدد كبير بالتأكيد، لأنّ المناطق الأكثر تضرراً مثل الكرنتينا، وبرج حمود، والجعيتاوي، والجميزة، ومار مخايل، يتواجد فيها كثير من المهاجرين واللاجئين إما للسكن أو العمل".
تتابع: "أما الذين تضرروا من جراء الأزمة الاقتصادية وكورونا، فإنّ جزءاً منهم يعيش خارج بيروت ما يصعّب عملية الإحصاء، لكن بالتنسيق مع مجموعات من الجاليات جرى إبلاغنا أنّه يوجد عدد كبير ممن تضرروا ومنهم من طردوا من عملهم عبر صاحب العمل أو الكفيل، ما يضطرهم للنوم في الشارع أو لدى أصدقائهم، ومنهم من حرم من راتبه". وتلخص أبرز المشاكل التي تواجه العمال الأجانب، وهي التعرض للعنف الجسدي والاقتصادي والتهميش، والحرمان من بعض الخدمات بسبب جنسياتهم مثل الرعاية الصحية وطردهم من أماكن سكنهم في حال تعذر دفع المبلغ الذي يطلبه المؤجّر، وكلّ ذلك يتفاقم بسبب وضعهم القانوني الهش. وتتحدث عن عجز العمال عن تحويل الأموال لذويهم. وتشرح كيف رُصد تخلي عدد من أصحاب العمل عن العاملات الإثيوبيات خصوصاً، منذ مارس/آذار الماضي، من دون إعطائهن حتى جوازات السفر أو رواتبهن المستحقة بالدولار.
وتتوقف البابا عند حقيقة أنّ مبادرات وجمعيات عدة، تتعمد بوضوح، حرمان العمال المهاجرين واللاجئين السوريين والفلسطينيين، من المساعدات المقدمة عقب انفجار مرفأ بيروت. وتتحدث عن عمل بعض المجموعات الأخرى ومنها حركة مناهضة العنصرية، على مساعدات قصيرة المدى لهذه الفئة المهمشة، من خلال توزيع حصص الطعام، وتقييم الأضرار في المنازل، وشراء الاحتياجات اللازمة للترميم. أما على المدى البعيد، فترى أنّ أفضل طريقة للمساعدة تتمثل في الضغط على الحكومة اللبنانية والسفارات لضمان تأمين سفر الراغبين. وتقول إنّ جهد منظمات المجتمع المدني غير كافٍ، "لأنّنا لا نريد، ولا نستطيع، أخذ دور الدولة والسفارات المعنية في معالجة هذه القضية".