قبل أيام، عادت المياه إلى الأحياء السكينة في العاصمة الليبية، طرابلس، بعدما انقطعت لأيام عدّة على أثر قيام مجموعة مسلحة في ترهونة (جنوب شرقيّ العاصمة طرابلس) بوقف ضخّ المياه من خزان رئيسي رداً على قطع مجموعة مسلحة من طرابلس الكهرباء عن ترهونة. سوّيت المشكلة، لكنّ الأمر يؤكد مرّة جديدة تحوّل المياه إلى عامل للضغط والتهديد.
وكانت مجموعات مسلحة قبلية في الجنوب قد أقدمت على إقفال مشروع النهر الصناعي في منطقة الشويرف، جنوب غربي ليبيا، مطالبة بإطلاق سراح معتقلين سياسيين في طرابلس ينتمون إلى قبيلة المسلحين. وفي يناير/ كانون الثاني الماضي هدد أهالي طبرق بإقفال ميناء الحريقة (شرقيّ العاصمة) لتصدير النفط في حال لم تُحلّ مشكلة المياه في المدينة، رافعين لافتات تؤكد أنّ المياه في مقابل النفط.
وقد راح خبراء كثر يدقّون ناقوس الخطر، فهم يرون أنّ ثمّة "كارثة مائية" وشيكة قد تهدّد الليبيين والحياة في البلاد التي تُعَدّ ثلثا مساحتها صحراء. وبحسب تقرير اطلعت عليه "العربي الجديد" أعدّته الشركة العامة للمياه والصرف الصحي، فإنّ ليبيا تعتمد على المياه الجوفية بنسبة 95 في المائة، مع كمية استهلاك سنوي يُقدّر بنحو مليار متر مكعب. والتقرير الذي رفع إلى وزارة الموارد المائية في حكومة طرابلس، يؤكد أنّه تبعاً لذلك صارت البلاد تواجه فقراً مائياً منذ عام 2015، ومن المتوقع تفاقمه بتوالي السنين مع تزايد عدد السكان. ويشير إلى أنّ 76 في المائة من الإمداد المائي من مجمل نسبة المياه الجوفية تصل إلى المدن عبر مشروع النهر الصناعي الذي يعاني بدوره إنهاكاً كبيراً في بنيته التحتية بسبب الإهمال وعدم صيانة محطاته، لا سيّما بعد تعرّض العشرات منها لاعتداءات مسلحة أوقفتها عن العمل.
وبحسب إدارة شركة مشروع النهر الصناعي الذي يُعَدّ الشريان الوحيد الذي يمدّ مدن الشمال الشرقي والغربي بالمياه الجوفية عبر أنابيب ضخمة تحت الأرض تنطلق من آبار جوفية عميقة في الجنوب إلى مناطق الشمال الغربي والشرقي بمعظمها، فإنّ 27 بئراً توقّفت عن العمل بسبب الاعتداءات حتى إبريل/ نيسان الماضي، وفي مايو/ أيار ارتفع عدد الآبار الخارجة عن العمل بسبب التخريب إلى 37 بئراً. ومن بين المنشآت المخرّبة مقار للشركة في الصحراء، علماً أنّه في خلال هجوم شنّه تنظيم "داعش" في يوليو/ تموز الماضي، لقي اثنان من عمال الشركة مصرعهما، في حين ما زال مصير ثلاثة مهندسين فيليبينيين وآخر كوري اختطفوا في اعتداء آخر في الشهر نفسه مجهولاً حتى الآن. وقد تسبب ذلك في توقّف موقع الشركة في منطقة تازربو، جنوب شرقيّ ليبيا، نهائياً عن العمل.
في إعلاناتها، توضح الشركة العامة للمياه والصرف الصحي أنّ ذلك كله يأتي مضافاً إلى مشكلات في انقطاع الكهرباء المتكرر عن شبكات الضخ، إلى جانب التعدي المتكرر على خطوط الإمداد والذي يتسبب في تسرّب آلاف الأمتار المكعبة من المياه من الأنابيب، بالتالي لا يصل في الغالب إلا ثلث الكمية إلى مناطق الشمال.
على الرغم من الحلول التي لجأ إليها الليبيون في عدد من المدن كالعاصمة طرابلس، من خلال حفر آبار جوفية كمصدر ثابت للمياه لتعويض انقطاعها على مدى أسابيع على يد المجموعات المسلحة، فإنّ سكان مدن أخرى باتوا مهددين بالفعل بالعطش. وقد أعلنت بلدية غدامس الحدودية مع الجزائر، قبل نحو أسبوعَين، عن تعطّل أربعة خزانات من أصل خمسة جوفية هي المصدر الوحيد للمياه، بسبب ارتفاع نسب الملوحة فيها. وهي المشكلة ذاتها والأسباب ذاتها التي تعانيها طبرق التي يحيط بها البحر الأبيض المتوسط من ثلاث جهات. وفي الوقت الذي تبذل طبرق جهوداً كبيرة من أجل إعادة تشغيل محطة التحلية لتعويض النقص الكبير، لا يبدو أنّ لدى غدامس الصحراوية حلولاً تمكّنها من مواجهة خطر العطش. يُذكر أنّ الظروف ذاتها تعانيها نالوت الجبلية في الغرب وسيناون المجاورة لغدامس، وعدد من المناطق في الشرق الليبي ما بين البيضاء وطبرق.
ويتّهم الليبيون حكومات البلاد المتتالية بالعجز عن معالجة أزمة المياه، في حين تتّهم المؤسسة الوطنية للموارد المائية المواطنين بأنّهم المسببون الأوائل لتلك الأزمة، لكنّها في الوقت نفسه شكت من إهمال الحكومة لها. وقد أصدرت المؤسسة بياناً موسعاً في مارس/ آذار الماضي، جاء فيه أنّ "جميع ممتلكات ومشروعات المؤسسة تعرّضت للسرقة والنهب والتخريب بنسبة 100 في المائة من قبل المواطنين، مما تسبب في عطل محطات المياه وفي أحسن الأحوال توقفها جزئياً". ولفتت المؤسسة إلى أنّ "عمر خطوط الإمداد ومحطات الإنتاج يزيد عن ثلاثين سنة. فعمرها الافتراضي قد انتهى كما لم تعد تواكب النموّ السكاني في ظل تغاضي الحكومات عن مطالب المؤسسة لتطوير القطاع وتوفير الحماية لمواقعه وللعمال الذين يعترضون للأذى بل منهم من اختطف أو قتل بالإضافة لسنّ عقوبات رادعة لمن يتعدى على خطوط الإمداد التي تتعرض للسرقة والتخريب كل يوم".
وتابعت المؤسسة في بيانها أنّه "حتى الحلول التي يلجأ إليها المواطن في بعض المدن كطرابلس بحفر آبار خاصة في البيوت والعمارات السكينة مخالف للقانون ويعرّض المخزون الجوفي للخطر، كما أنّ تلك المياه غير صالحة للشرب لوصول تسرّبات مياه الصرف الصحي لتلك الآبار". ولفتت المؤسسة في السياق، إلى أنّها تدير خمسة قطاعات هي الشركة العامة للمياه، والشركة العامة للتحلية، وجهاز النهر الصناعي، وجهاز حفر وصيانة آبار ومشروعات المياه، والهيئة العامة للمياه، وكلها مهددة بالإقفال وتعطّل أعمالها في حال استمرار عدم تسييل الميزانيات الخاصة بها وعدم تسلّم العاملين فيها رواتبهم لأشهر طويلة.