العطب المزدوج في المغرب

14 ديسمبر 2019
+ الخط -
يحاول توجه داخل بنية الدولة في المغرب ربط مناخ الإحباط واليأس الجماعي الذي انتشر في البلد بمجريات الحقل السياسي، فالاحتقان الاجتماعي والغضب الشعبي وفقدان الثقة في مؤسسات الدولة نتيجة طبيعية لتطورات المشهد السياسي التي أفضت إلى إخلاف النخب الموعد مع التاريخ، لأنها لم تكن في مستوى رهانات المرحلة وتحدياتها. وسبق لملك البلاد، محمد السادس، أن عبّر عن ذلك، بشكل مباشر، في إحدى خطب العرش، حين قال إنه غير مقتنع بالطريقة التي تمارس بها السياسة، ولا يثق في عدد من السياسيين، فماذا بقي للشعب؟ ... عندما تكون النتائج إيجابية، تتسابق الأحزاب والطبقة السياسية والمسؤولون إلى الواجهة، للاستفادة سياسيا وإعلاميا، من المكاسب المحققة. وعندما لا تسير الأمور كما ينبغي، يتم الاختباء وراء القصر الملكي، وإرجاع كل الأمور إليه.
لن ينكر إلا جاحد مسؤولية النخب السياسية عما آلت إليه الأوضاع في المغرب، بعدما انطلق مشروع الانتقال الديمقراطي، قبل عشرين سنة، مع حكومة عبد الرحمن اليوسفي (1998)، ثم توقف بعد "الانزياح عن المنهجية الديمقراطية" عقب انتخابات 2002، لتجريب وصفات أخرى بدلا عن الديمقراطية. عاد الحلم الديمقراطي ليتوهج مجدّدا، بشعار "الإصلاح في ظل الاستقرار"، مع موجة الربيع العربي (2011)، وما أعقبها من مؤشّرات تدل على التوجه بثبات نحو حجز مقعد في نادي الدول الديمقراطية، قبل النكوص عنها، وتكرار السيناريو نفسه في نسخةٍ منقحة، تتلاءم مع مقتضيات السياق العام.
تستبطن هذه الأطروحة رسائل شتى، ليس هذا مقام التفصيل فيها، غرضها محورة الأنظار حول 
الفاعل السياسي وحده، قصد تحويله إلى مشجبٍ تُعلق عليه كل مشكلات البلد وأزماته. على الرغم من أنه مجرد فاعل إلى جانب قوى أخرى مؤثرة في المشهد المغربي، ما يستوجب العمل بمبدأ تشطير المسؤولية، فالأكيد أن لكل قوة قسطاً ونصيباً في تطورات الأوضاع في المغرب.
يحضر الاقتصاد جنبا إلى جنب السياسة في كل الدول، إلا في المغرب، يسعى من يعملون على إظهار خبايا السياسة إلى إخفاء تفاصيل الاقتصاد والتغطية عليها، فقليلون هم المغاربة المتابعون ما يجري في المجال الاقتصادي، وما يخلفه ذلك من تداعيات على البلد. وحتى إن حدث ذلك، فغالبا ما يكون بشكل عرضي سرعان ما يُنسى، كما جرى سنة 2014؛ في الذكرى 15 لعيد العرش، حين فتح الخطاب الملكي النقاش حول الثروة في المغرب. ولكن تقارير دولية، وأحيانا وطنية، تسلط، بين الفينة والأخرى، الضوء على بعض أعطاب الاقتصاد المغربي، بكشف خبايا منظومة اقتصادية هشّة قوامها ثلاثي الريع والاحتكار والفساد، ما يعني أن الاقتصاد ليس أفضل حالا من السياسة. وليس من المبالغة القول إن حاله أسوأ، فهامش مناورة السلطوية في المشهد السياسي أكبر مقارنةً مع ما يتاح لها في ميدان الاقتصاد، حيث تهتدي، في الغالب، إلى أسلوب الاجتزاء أو اللعب بالأرقام؛ أي قول نصف الحقيقة فقط عن الاقتصاد المغربي. حدث ذلك، مثلا، مع أحدث تقرير للبنك الدولي حول "خلق الأسواق في المغرب، تشخيص للقطاع الخاص"، فقد سجل تحقيق الاقتصاد المغربي أحد أعلى معدلات الاستثمار في العالم، بعدما وصل إلى 34% من الناتج الإجمالي المحلي في العام الواحد، منذ منتصف سنوات 2000. ولكن ذلك لم تكن له انعكاسات واضحة على مستوى سوق الشغل والنمو الاقتصادي وحجم الإنتاجية. ولذا يكتفي صنّاع القرار بترويج الشق الإيجابي من 
المعلومة فقط، بمعنى نجاح المغرب في استقطاب استثمارات مهمة، بعدما اختارت شركاتٌ عالمية الاستقرار في المغرب، مستفيدةً مما يوفره من إمكانات وتحفيزات لها، من دون أي إشارة إلى العائد السلبي لهذا الإنجاز، فهذا الحجم الضخم من الاستثمار لم يوفر سوى 26 ألفا و400 فرصة شغل سنويا، في وقتٍ يقدر فيه عدد الذين يوجدون في سن الشغل بـأزيد من 270 ألف شخص سنويا، بين سنتي 2012 و2016. وتحدث التقرير كذلك عن نجاح الدولة في دعم النمو الاقتصادي، ولكن المعضلة في القيام بالأمر عبر مقاولات راسخة، تهيمن على الاقتصاد المغربي، تحتكر لنفسها الاستثمار في القطاعات التي لا تعرف منافسة كبيرة، فالبلد بحاجة إلى مقاولاتٍ صغرى ومتوسطة شابة؛ أي أقل من خمس سنوات، بإمكانها إيجاد دينامية جديدة بقدرتها على اختراق الأسواق، وتوفير فرص شغل جديدة.
استبعاد أعطاب المجال الاقتصادي من دوائر النقاش، والاقتصار على أمراض المشهد السياسي، كان فكرة ذكية من النظام لحماية نفسه وحلفائه، والتغطية على شبهاتٍ جمّة تعتري الاقتصاد المغربي. نتيجة قرار تاريخي للمخزن، في سياق لعبة البحث عن التوازنات، مفادُه المزج بين الاقتصاد والسياسة، فدخل رجال المال والأعمال في عوالم السياسة. وقد جاء التقرير السالف الذكر على أن مساحيق التحرير والانفتاح واللبرلة المزعومة لم تحل دون تحوّل الاقتصاد المغربي إلى قلعة حصينة للاحتكار، لا تتوفر فيها الحدود الدنيا من التنافس الحر، بسبب كثرة الحواجز والعراقيل التي تواجه أي مستثمر جديد، خارج المنظومة التقليدية المهيمنة على كل شيء. تعزّز هذا القول نسبة 9% التي يؤكد التقرير أنها تمثل المقاولات الشابة في النسيج الاقتصادي المغربي.
يحاول المستفيدون جاهدين الإبقاء على الوضع، بصناعة معارك دونكيشوتية في المشهد السياسي، قصد إلهاء المغاربة عن جوهر المشكل وأساسه. ولكن معالم هذه الخطة بدأت تفتضح، وخير دليل على ذلك حملة المقاطعة التي عرفها المغرب العام الماضي، واستهدفت منتجات من يمثلون هذا الخيار. وحان الوقت ليدرك صناع القرار في المغرب أن الادّعاء بإمكانية نجاح إصلاح سياسي من دون ضبط إيقاع الاقتصاد، وفق قواعد جديدة، مجرّد وهم. كما أن فكرة الانتصار لأطروحة النهضة الاقتصادية؛ أي التنمية بلا ديمقراطية، بعيدا عن أي رهان سياسي، يعني تكرار تجربة المخلوع زين العابدين بن علي في تونس.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري