24 سبتمبر 2020
العرب.. والسبعينية السوداء
في قلب قاهرة المعز، وفي فندق فاخر ملاصق لمقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يطل على أشهر ميادين العاصمة الذي انطلقت منه ثورة 25 يناير في العام 2011، ويقف على مشارفه تمثال لأحد الرموز العسكرية المصرية خلال حروبها مع العدو الإسرائيلي، والذي سقط شهيداً في واحدة من تلك الحروب، حرب الاستنزاف، التي أعقبت هزيمة يونيو/ حزيران 1967، ومهدت لانتصار أكتوبر/ تشرين الأول 1973، وهو تمثال الفريق عبد المنعم رياض. كما يطل ذلك الفندق الذي يحمل اسما عالميا شهيراً على نيل القاهرة الرائع.
اختار العدو الإسرائيلى ذلك المكان بعناية شديدة لإقامة احتفاليته بسبعينية إعلان قيام دولته على الأرض العربية الفلسطينية المغتصبة، ذلك الإعلان الذي حدث فور إعلان بريطانيا العظمى انتهاء انتدابها على فلسطين في 14 من مايو/ أيار 1948، وهي ذكرى ما اصطلحنا على تسميتها "النكبة" أو نكبة فلسطين؟ وقد حرص العدو الإسرائيلي على أن يُعلن مسبقاً عن ذلك الاحتفال، وينشر صورا لبطاقات الدعوة موقعة باسم السفير الإسرائيلي في القاهرة، وأن يروج برنامج حفل الاستقبال، وكيف أنهم استقدموا أشهر الشيفات الإسرائيليين خصيصاً من فلسطين المحتلة، ومعه مساعدوه، لإعداد أشهى الأطباق، مع فرقة موسيقية محترفة للترويح عن الحضور. وبادر العدو الإسرائيلي، فور إقامة الحفل، بنشر صور ومقاطع حية من الحفل على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى نطاق واسع.
ولا شك أن اختيار مكان إقامة الاحتفال يحمل دلالات عديدة، قصدها منظمو الحفل بطبيعة الحال، وخصوصا أن بعضهم قد يقول، مدّعيا البراءة والتجرّد، وماذا في ذلك؟ أليس من حق دولة معترف بها، ولديها تمثيل دبلوماسي رسمي على أعلى مستوى، وترفع علمها على مقراتها، أليس من حق سفارة تلك الدولة أن تحتفل بعيدها القومي، وهو عرف دبلوماسي في كل الدول؟ وأليس لتلك الدولة سفارة في القاهرة منذ قرابة أربعة عقود، وسبق أن أقامت مثل ذلك الاحتفال مرات عديدة؟
يبدو ذلك كله كأنه منطقي، في ظل وجود سفارة للعدو الإسرائيلي في القاهرة، في إطار معاهدة السلام التي أبرمها أنور السادات في 1979، اتفاق سلام تعاقدي، أنهى حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. لكن هذا المنطق لا يستقيم مع حقيقة أن اتفاق السلام الذي تم بمقتضاه وجود سفارة للعدو الإسرائيلي في القاهرة لم يضع حلاً للقضية الفلسطينية، ولم يسترجع أيا من حقوق الشعب الفلسطيني، والذي هو جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي، وهو ما يسعى العدو الإسرائيلى إلى وضع نهاية له، مدعوما بالولايات المتحدة الأميركية، في ظل إدارة الرئيس ترامب الذي قرّر أن يُسقط كل الأقنعة عن السياسة الأميركية وأهدافها في الشرق الأوسط. وفى مقدمة تلك الأهداف تصفية القضية الفلسطينية، فلا يبقى هناك مجال للحديث عن صراع عربي – إسرائيلي. وتم ترويج عملية التصفية تلك عن طريق ما أُطلق عليها "صفقة القرن"، والتي لم يتم الإعلان عن محتواها بشكل واضح حتى الآن. وإنْ كان الأمر لا يحتاج إلى عناء كبير للتعرّف على ملامحها الرئيسية، من خلال ما يجري في الواقع، خصوصا في ما يتعلق بما تعرف بقضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وهي ثلاث: الأرض والحدود والمياه، اللاجئون وحق العودة، القدس قضية كل العرب وكل المسلمين. وفي هذه القضايا الثلاث جوهر الصراع. يطالب الفلسطينيون بالحد الأدنى من حقوقهم، وهي الأرض على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، مع التواصل الجغرافي بين كل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحقوقهم في المياه، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم بلا قيود، وتعويض من لا يرغب في العودة. أما القدس الشريف بكل مقدساتها فتعود عاصمةً للدولة الفلسطينية. من هنا، جاءت الخطة الصهيوأميركية لتعصف بالقضايا الثلاث من أساسها، وبشكل يتسم بالصلف، وامتهان مشاعر الشعوب، واستهانة بالنظم والحكام. ارتكزت الخطة إلى ثلاثة محاور: الأول أن أميركا هي الدولة الحامية لدول المنطقة، خصوصا العربية والنفطية، وأنها لو تخلت عنها لسقطت فى أسبوعين أو أسبوع، على حد تعبير ترامب نفسه. وبالتالي، عليها أن تخضع للابتزاز الأميركي الاقتصادي، والسياسي أيضا، وأن أميركا هي التي تحدد لتلك الدول من هو العدو ومن هو الصديق. وقد حددت أن عدو العرب إيران وليس إسرائيل، في محاولةٍ فجّةٍ لتغيير الصورة الذهنية للعدو الإسرائيلي في الوعي العربي العام، ليتحول إلى حليف أو شريك في مواجهة عدو مشترك، هو جمهورية إيران الإسلامية. وانطلاقاً من هذا المحور الذي حقق فيه ترامب نجاحاً ملموساً، ظهر جلياً في تغيير الخطاب العربي الرسمي ليركز على "العدو الإيراني" بدلا من "العدو الإسرائيلي".
انطلاقاً من ذلك، تم الانتقال إلى المحور الثاني، وهو هدم الثوابت الفلسطينية والعربية، المتعلقة بقضايا الحل النهائي الثلاث، وفي مقدمتها القدس، فكان قرار ترامب نقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل إلى القدس التي اعتبرها عاصمة الدولة العبرية، فلم يعد لها مكان في أي مفاوضات، وتم ذلك وسط صمت عربي مُريب.
وفي ما يتعلق بقضية اللاجئين وحق العودة، أوقفت أميركا مساهمتها في ميزانية وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين (أونروا)، سعيا إلى تعطيل أنشطة الوكالة، تمهيدا لتصفيتها، وتهميش قضية اللاجئين، وهو ما تنبهت له المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، فأطلقت مبادرة مسيرات العودة السلمية، والتي واجهها العدو الإسرائيلى بشراسته المعهودة، فسقط خلالها عشرات الشهداء، وآلاف الجرحى، في رسالة واضحة: إن أي حديث أو تحرك يتعلق باللاجئين وحق
العودة سيُقابل بالعنف المفرط. وتم ذلك وسط الصمت العربي المُريب نفسه. القضية الثالثة هي الأرض والحدود والمياه. وقد جاءت الرسالة الخاصة بها في احتفالية القاهرة، حيث أراد العدو الإسرائيلي أن يوجه رسالة شديدة الأهمية إلى أمة العرب، شعوبها قبل نُظمها، في ما يتعلق بقضية الأرض والحدود والمقدرات، فعنوان الاحتفالية "الاستقلال"، باعتبار دولة العدو الإسرائيلي مستقلة، تفرض سيادتها على الأرض والحدود والمقدرات كما تحدّدها هي، وتقيم تلك الاحتفالية في قلب القاهرة عاصمة الدولة العربية الأكبر، بكل ما يحمله تاريخها من رمزيةٍ تتعلق بفلسطين، والقدس الشريف خصوصا، فمنها خرجت جيوش صلاح الدين الأيوبي لتحرير بيت المقدس، ورد الحملات الصليبية، ومنها انطلقت شعارات تحرير فلسطين في مواجهة المشروع الصهيوني، من قلب القاهرة يحتفل العدو الإسرائيلى بسبعينية اغتصابه للأرض الفلسطينية.
يبقى المحور الثالث في الخطة الصهيوأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، وهو بمثابة فصل الختام، فطالما عدو الأمة العربية لم يعد إسرائيل، ولا المشروع الصهيوني، بل إيران والمشروع الفارسي، وطالما قضايا الحل النهائي لم تعد قضايا، وتم تهميشها والقفز عليها، لا مجال للحديث عن القدس، ولا عن اللاجئين وحق العودة، ولا عن الأراضي والحدود، فإن ترامب سيقدم لكم أيها العرب "صفقة القرن" بضمانة أميركية، وهي باختصار: عليكم أن تتحالفوا مع إسرائيل لمواجهة عدوكم المشترك إيران. وعلى الفلسطينيين أن يقبلوا بالعيش في سلام على ما تبقى لهم من أرض، في إطار شكل من أشكال الحكم الذاتي أو الإدارة المحلية.
بدأت السبعينية السوداء في العام 1948 بالهزيمة العربية العسكرية، ووقوع "النكبة العربية" التي شكلت بداية الصراع العربي – الإسرائيلي. ونحن الآن في العام 2018، تكتمل السبعينية السوداء، والعرب في ظل تهافت حكامهم على السلطة على مشارف هزيمة، ليست عسكرية فقط.
اختار العدو الإسرائيلى ذلك المكان بعناية شديدة لإقامة احتفاليته بسبعينية إعلان قيام دولته على الأرض العربية الفلسطينية المغتصبة، ذلك الإعلان الذي حدث فور إعلان بريطانيا العظمى انتهاء انتدابها على فلسطين في 14 من مايو/ أيار 1948، وهي ذكرى ما اصطلحنا على تسميتها "النكبة" أو نكبة فلسطين؟ وقد حرص العدو الإسرائيلي على أن يُعلن مسبقاً عن ذلك الاحتفال، وينشر صورا لبطاقات الدعوة موقعة باسم السفير الإسرائيلي في القاهرة، وأن يروج برنامج حفل الاستقبال، وكيف أنهم استقدموا أشهر الشيفات الإسرائيليين خصيصاً من فلسطين المحتلة، ومعه مساعدوه، لإعداد أشهى الأطباق، مع فرقة موسيقية محترفة للترويح عن الحضور. وبادر العدو الإسرائيلي، فور إقامة الحفل، بنشر صور ومقاطع حية من الحفل على وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى نطاق واسع.
ولا شك أن اختيار مكان إقامة الاحتفال يحمل دلالات عديدة، قصدها منظمو الحفل بطبيعة الحال، وخصوصا أن بعضهم قد يقول، مدّعيا البراءة والتجرّد، وماذا في ذلك؟ أليس من حق دولة معترف بها، ولديها تمثيل دبلوماسي رسمي على أعلى مستوى، وترفع علمها على مقراتها، أليس من حق سفارة تلك الدولة أن تحتفل بعيدها القومي، وهو عرف دبلوماسي في كل الدول؟ وأليس لتلك الدولة سفارة في القاهرة منذ قرابة أربعة عقود، وسبق أن أقامت مثل ذلك الاحتفال مرات عديدة؟
يبدو ذلك كله كأنه منطقي، في ظل وجود سفارة للعدو الإسرائيلي في القاهرة، في إطار معاهدة السلام التي أبرمها أنور السادات في 1979، اتفاق سلام تعاقدي، أنهى حالة الحرب بين مصر وإسرائيل. لكن هذا المنطق لا يستقيم مع حقيقة أن اتفاق السلام الذي تم بمقتضاه وجود سفارة للعدو الإسرائيلي في القاهرة لم يضع حلاً للقضية الفلسطينية، ولم يسترجع أيا من حقوق الشعب الفلسطيني، والذي هو جوهر الصراع العربي – الإسرائيلي، وهو ما يسعى العدو الإسرائيلى إلى وضع نهاية له، مدعوما بالولايات المتحدة الأميركية، في ظل إدارة الرئيس ترامب الذي قرّر أن يُسقط كل الأقنعة عن السياسة الأميركية وأهدافها في الشرق الأوسط. وفى مقدمة تلك الأهداف تصفية القضية الفلسطينية، فلا يبقى هناك مجال للحديث عن صراع عربي – إسرائيلي. وتم ترويج عملية التصفية تلك عن طريق ما أُطلق عليها "صفقة القرن"، والتي لم يتم الإعلان عن محتواها بشكل واضح حتى الآن. وإنْ كان الأمر لا يحتاج إلى عناء كبير للتعرّف على ملامحها الرئيسية، من خلال ما يجري في الواقع، خصوصا في ما يتعلق بما تعرف بقضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية، وهي ثلاث: الأرض والحدود والمياه، اللاجئون وحق العودة، القدس قضية كل العرب وكل المسلمين. وفي هذه القضايا الثلاث جوهر الصراع. يطالب الفلسطينيون بالحد الأدنى من حقوقهم، وهي الأرض على حدود الرابع من يونيو/ حزيران 1967، مع التواصل الجغرافي بين كل الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحقوقهم في المياه، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم بلا قيود، وتعويض من لا يرغب في العودة. أما القدس الشريف بكل مقدساتها فتعود عاصمةً للدولة الفلسطينية. من هنا، جاءت الخطة الصهيوأميركية لتعصف بالقضايا الثلاث من أساسها، وبشكل يتسم بالصلف، وامتهان مشاعر الشعوب، واستهانة بالنظم والحكام. ارتكزت الخطة إلى ثلاثة محاور: الأول أن أميركا هي الدولة الحامية لدول المنطقة، خصوصا العربية والنفطية، وأنها لو تخلت عنها لسقطت فى أسبوعين أو أسبوع، على حد تعبير ترامب نفسه. وبالتالي، عليها أن تخضع للابتزاز الأميركي الاقتصادي، والسياسي أيضا، وأن أميركا هي التي تحدد لتلك الدول من هو العدو ومن هو الصديق. وقد حددت أن عدو العرب إيران وليس إسرائيل، في محاولةٍ فجّةٍ لتغيير الصورة الذهنية للعدو الإسرائيلي في الوعي العربي العام، ليتحول إلى حليف أو شريك في مواجهة عدو مشترك، هو جمهورية إيران الإسلامية. وانطلاقاً من هذا المحور الذي حقق فيه ترامب نجاحاً ملموساً، ظهر جلياً في تغيير الخطاب العربي الرسمي ليركز على "العدو الإيراني" بدلا من "العدو الإسرائيلي".
انطلاقاً من ذلك، تم الانتقال إلى المحور الثاني، وهو هدم الثوابت الفلسطينية والعربية، المتعلقة بقضايا الحل النهائي الثلاث، وفي مقدمتها القدس، فكان قرار ترامب نقل السفارة الأميركية لدى إسرائيل إلى القدس التي اعتبرها عاصمة الدولة العبرية، فلم يعد لها مكان في أي مفاوضات، وتم ذلك وسط صمت عربي مُريب.
وفي ما يتعلق بقضية اللاجئين وحق العودة، أوقفت أميركا مساهمتها في ميزانية وكالة الغوث للاجئين الفلسطينيين (أونروا)، سعيا إلى تعطيل أنشطة الوكالة، تمهيدا لتصفيتها، وتهميش قضية اللاجئين، وهو ما تنبهت له المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، فأطلقت مبادرة مسيرات العودة السلمية، والتي واجهها العدو الإسرائيلى بشراسته المعهودة، فسقط خلالها عشرات الشهداء، وآلاف الجرحى، في رسالة واضحة: إن أي حديث أو تحرك يتعلق باللاجئين وحق
يبقى المحور الثالث في الخطة الصهيوأميركية لتصفية القضية الفلسطينية، وهو بمثابة فصل الختام، فطالما عدو الأمة العربية لم يعد إسرائيل، ولا المشروع الصهيوني، بل إيران والمشروع الفارسي، وطالما قضايا الحل النهائي لم تعد قضايا، وتم تهميشها والقفز عليها، لا مجال للحديث عن القدس، ولا عن اللاجئين وحق العودة، ولا عن الأراضي والحدود، فإن ترامب سيقدم لكم أيها العرب "صفقة القرن" بضمانة أميركية، وهي باختصار: عليكم أن تتحالفوا مع إسرائيل لمواجهة عدوكم المشترك إيران. وعلى الفلسطينيين أن يقبلوا بالعيش في سلام على ما تبقى لهم من أرض، في إطار شكل من أشكال الحكم الذاتي أو الإدارة المحلية.
بدأت السبعينية السوداء في العام 1948 بالهزيمة العربية العسكرية، ووقوع "النكبة العربية" التي شكلت بداية الصراع العربي – الإسرائيلي. ونحن الآن في العام 2018، تكتمل السبعينية السوداء، والعرب في ظل تهافت حكامهم على السلطة على مشارف هزيمة، ليست عسكرية فقط.