19 سبتمبر 2022
العرب بلا مشروع إزاء مشروعي تركيا وإيران
منذ مطلع القرن الحادي والعشرين، كانت مجموعاتٌ من النخب العربية تأمل ولادة أيّ مشروع عربي يواجه تحديّات الدواخل، ويمكنه أن يقف حائلاً إزاء مشروعات الآخرين الخارجية، خصوصاً أنّ ثمة زعامات عربية وعدت شعوبها بالإصلاحات والديمقراطية والانفتاح على العصر. وجاء ذلك بالذات إثر التداعيات الخطيرة التي أعقبت تفجيري برجي التجارة العالمية في نيويورك في سبتمبر/أيلول 2001، وقد أعقب ذلك الاحتلالان الأميركيان لأفغانستان عام 2002 والعراق عام 2003. ومنذ تلك اللحظة التاريخية المريرة، كثرت مطالب الشعوب العربية بالحريّات والديمقراطية وتحسين فرص الحياة السياسية والمعيشية، وكذب الزعماء العرب الذين وعدوا شعوبهم بذلك. وأذكر أنّ النداءات كثرت، وأن القمم العربية التي عُقدت لم تنفع شيئاً، بل وأوهمت السياسات العربية نفسها بأنّ الإصلاحات انحسرت في جامعة الدول العربية. وشاركت هذه المؤسسة المشلولة في زرع الآمال الكاذبة عند الناس، وكأنّ مشكلة العرب تكمن فقط في "برلمان عربي"، لم نعد نسمع عنه شيئا أبداً، وثمّة شعوبٌ عربيةٌ باتت تُسحق اليوم سحقاً. وقد تبيّن للأذكياء كم كانَ الأفق السياسي ضيقاً عند العرب منذ زمن طويل، بحيث كانوا، وما زالوا، يتصارعون على أتفه الأشياء والأمور، ولا يقيمون وزناً أبداً لأمّهات القضايا الجوهرية.
واندلعت الثورات العربية، وكان هناك من يبشّر بولادة مشروع عربي رصين، من أجل الحرّيات والديمقراطية والعدالة والتحديث، ولم يزل المنادون بذلك يصرّون على الأخذ به في مواجهة العرب التحدّيات من خلال الثورات الشعبية التي عمّت الأرض العربية، وشاع أثرها في العالم، إذ كانت تعبّر عن ضمير عربي حي، فكان أن سقطت أنظمة سياسيّة في أكثر من
بلد عربي، وسقط أكثر من دكتاتور ومستبدّ. وعلى الرغم من اختراق تلك الثورات، واستلابها ضمن سياسات داخلية ومصادرتها من إرادات خارجية، وقد اتُهمت بشتى التهم التي لا أساس لها من الصحّة أبداً، فإنّ السبب الحقيقي وراء هذه الحالات المأساوية التي نشهدها اليوم في كلّ من العراق وسورية واليمن وليبيا ومصر والسودان وبلدان أخرى، إنما سببها الحقيقي يكمن في غياب أي مشروع عربي حتى اليوم، مهما كانت طبيعته وخطابه وأفقه العريض في المكان والزمان. مشروع يمهّد خريطة طريق لهذه المنظومة العربية التي كان لابدّ أن تجتمع، على الرغم من كلّ الخلافات السياسية والأيديولوجية في ما بينها، مع وجوب الاتفاق على مبادئ عربية يوقّع الجميع عليها في "ميثاق شرف"، بعيداً عن النزق السياسي العربي الذي خذل منظومتنا منذ أكثر من ستين عاماً، وبعيداً عن كل من يتحالف مع الآخر ضد أهله، وأن تكون مرتكزاً حقيقياً وتاريخياً لمشروع عربي يقف بقوة إزاء المشروعين، الإيراني والتركي، في المنطقة، وكلنا يدرك أن لهذين المشروعين تاريخهما في إطار الإسلام السياسي. وعلى الرغم من اختلاف أحدهما عن الآخر اختلافاً جذرياً. ولكن، لكلّ "مشروع" منهما غاياته وأهدافه وخططه، وأنهما قد أُسّسا من أجل التقدّم بالمصالح العليا لكلّ من البلدين الجارين.
السؤال: لماذا لم ينجح العرب في بلورة أيّ مشروع باستطاعته فرض إرادته في الداخل، وتأثيرات قوته في الخارج؟
كان لا بدّ أن ينبثق أي مشروع عربي يتفق عليه الجميع، رغبت أميركا والقوى الأخرى في العالم أم لم ترغب، فلا يمكن أبداً أن يدخل العرب القرن الحادي والعشرين، وهم في مثل الحالة المزرية التي دخلوها إليه، فكان أن وجدت القوى الخارجية فرصتها للتدخّل في أكثر من مكان عربي. وإذا كانت تركيا قد طوّرت مشروعها السياسي داخلياً، وقالت للعرب بـ "صفر مشاكل"، فإنها لم تُبق على أصفارها، بل دخلت بناءً على الحيثيات التي قدّمتها لتطوير منظومة مصالحها الإقليمية، في حين كانت إيران قد طوّرت مشروعها السياسي، ولم تقصره على دواخلها، بل بدأت تسويقه وترويجه في دول ومجتمعات عربية بلا خجل، ومن دون أيّ استحياء، كونه يعلن أن إيران صاحبة مشروع ديني تودّ تصديره أو نشره من دون أيّ إحساس بذنب التدّخل في شؤون الآخرين، كونه يحمل شعارات دينية.
وعليه، في ظل غياب أي مشروع عربي يرتكز على مقومات ومبادئ، عانت عدة بلدان عربية من خطايا أنظمة حكم سياسيّة، وارتكاب خطايا وحماقات وجنايات بإشعال حروب ومباركة
إرهاب.. وغرقت البلاد العربية في آثام الطائفية والانقسامات الاجتماعية، مع استفحال تدخّلات الآخرين، وولادة مليشيات أوليغارية، جعلت من العراق وسورية مثلاً مسرحاً لأكثر من حرب أهلية مع سياسة احتلال ونفوذ إيراني سافر. غياب أيّ مشروع عربي أوجد موجةً من الضياع مع غلبة التعصّبات، وتفاقم سلسلة من الموجات المرعبة. كان على العرب أن لا يمنحوا الفرصة لأيّ تدخل أجنبي، كي لا تغدو الأرض العربية مباحةً للآخرين أن يعبثوا بها لاحقاً، كما يجري اليوم. وقد تبيّن واضحاً أن أيّة دولة حقيقية لها مؤسساتها لا يمكنها البقاء من دون أن يكون لها مشروعها الوطني أو القومي. وتركيا وإيران من أقرب الدول الإقليمية في تماسّهما بالعرب، براً وبحراً، وكلتاهما تطوّران سياساتهما من خلال مشروعيهما الإقليميين. هنا، لا أسأل عن غياب أيّ مشروع عربي يأتي فضفاضاً لا نفع فيه، بل أسأل: هل كان يمكنه أن ينبثق مع ضعف القيادات وتناحر السياسات وعدم قناعة الشعوب به، كونهم يعتبرونه مرادفاً لتجارب الوحدة العربية سابقاً.. كيف؟
لم يقدّم العرب حتى اليوم أيّ مشروع استراتيجي لهم في الإقليم والعالم، أولاً لأنهم فقدوا مصداقية أنفسهم مع دواخلهم، ولم يعد يثق الأحد بالآخر مع تباين سياساتهم المحلية، وأن كياناتهم قد ضعفت بهشاشة مؤسساتها وهزال مسؤوليها، بل ولم يتم إفساح المجال أمام النخب أن تعلن عن آرائها وأفكارها، بصراحةٍ متناهيةٍ، كي تتم الاستفادة منها، ناهيكم عما حدث من خللٍ في الوعي الجمعي العربي إزاء أي مشروع عربي لا يبتغي أكذوبات الوحدة والحرية والاشتراكية، كما كانت تسوّقه الأنظمة القومية، بل مطالبة هذا الوعي بضرورة الاتفاق على "مبادئ" تحافظ على كينونتنا ووجودنا مجموعة بشرية عريقة، وهي ترى الآخرين ينتصرون عليها، بل ويخترقون مجتمعاتنا ويعبثون بها. ناهيكم عن أن فكرة الانقسام كانت مزروعة في الذات العربية، وهي تغلب فكرة التوحد، بانسلاخ مجموعات سكانية عن واقعها وتاريخها ووجودها جرّاء ما حصل من استخدام الإرهاب والسياسات الجائرة ضد كل المجتمع.. وعليه، لم يقتصر الأمر على الإحباط لكل أبناء الطيف من أبناء الأقليات، بل أصابهم الخذلان جرّاء العنف الذي مورس بقساوةٍ لا توصف. وهكذا، وجدت روح الانفصال تأخذ طريقها إلى التحقيق من أعراق وجماعات تشكل أطيافاً لها مشروعاتها الانفصالية عن ذاك الذي أسموها "الأمة الواحدة".
ما أصاب منظومتنا العربية منذ خمسين سنة كفيل بإيجاد جماعات متوحشة، مثل "داعش" وغيرها، لتسحق مجتمعاتنا ووجودنا.. وكانت السياسات العقيمة التي اتُبعت كافيةً لانتشار الفساد، وتهتك بلداننا إلى الحد الذي جعل نظما سياسية تستعين بالآخر لسحق شعوبها، من خلال قوات عسكرية وقوى أوليغارية ومليشيات مرتبطة بالآخرين. وعليه، لم تعد مجتمعاتنا موحّدة ومتجانسة، كما كانت عبر التاريخ. لم يكن تلاحم مجتمعاتنا أمراً تلقائياً مباشراً، بل أوجدت البيئات العربية وجغرافية العرب حقائق تاريخية، تثبت أنّ المجتمعات، كما كانت في السابق، تنقسم وتتفكّك في حال ضعفها، وتتمرّد وتقسو في حال قوتها. السنوات العجاف التي عاشتها مجتمعاتنا منذ داهمتها الحروب الداخلية والإقليمية والدولية منذ أكثر من خمسين سنة قد منحت العقلاء دروساً حكيمةً، لا يمكن نسيانها أبداً، بل ولابدّ أن تكون خرائط طريق إزاء المستقبل. علمتنا التجارب الصعبة أن منظومتنا الجغرافية العربية بحاجة ماسة إلى "مشروع" استراتيجي، له قوته وتأثيره في الحفاظ على مصالحنا العليا المشتركة، وعلى تعايش نسيج مجتمعاتنا، وعلى تطوير جماليات ثقافتنا، وعلى كلّ وجودنا ومصيرنا.
واندلعت الثورات العربية، وكان هناك من يبشّر بولادة مشروع عربي رصين، من أجل الحرّيات والديمقراطية والعدالة والتحديث، ولم يزل المنادون بذلك يصرّون على الأخذ به في مواجهة العرب التحدّيات من خلال الثورات الشعبية التي عمّت الأرض العربية، وشاع أثرها في العالم، إذ كانت تعبّر عن ضمير عربي حي، فكان أن سقطت أنظمة سياسيّة في أكثر من
السؤال: لماذا لم ينجح العرب في بلورة أيّ مشروع باستطاعته فرض إرادته في الداخل، وتأثيرات قوته في الخارج؟
كان لا بدّ أن ينبثق أي مشروع عربي يتفق عليه الجميع، رغبت أميركا والقوى الأخرى في العالم أم لم ترغب، فلا يمكن أبداً أن يدخل العرب القرن الحادي والعشرين، وهم في مثل الحالة المزرية التي دخلوها إليه، فكان أن وجدت القوى الخارجية فرصتها للتدخّل في أكثر من مكان عربي. وإذا كانت تركيا قد طوّرت مشروعها السياسي داخلياً، وقالت للعرب بـ "صفر مشاكل"، فإنها لم تُبق على أصفارها، بل دخلت بناءً على الحيثيات التي قدّمتها لتطوير منظومة مصالحها الإقليمية، في حين كانت إيران قد طوّرت مشروعها السياسي، ولم تقصره على دواخلها، بل بدأت تسويقه وترويجه في دول ومجتمعات عربية بلا خجل، ومن دون أيّ استحياء، كونه يعلن أن إيران صاحبة مشروع ديني تودّ تصديره أو نشره من دون أيّ إحساس بذنب التدّخل في شؤون الآخرين، كونه يحمل شعارات دينية.
وعليه، في ظل غياب أي مشروع عربي يرتكز على مقومات ومبادئ، عانت عدة بلدان عربية من خطايا أنظمة حكم سياسيّة، وارتكاب خطايا وحماقات وجنايات بإشعال حروب ومباركة
لم يقدّم العرب حتى اليوم أيّ مشروع استراتيجي لهم في الإقليم والعالم، أولاً لأنهم فقدوا مصداقية أنفسهم مع دواخلهم، ولم يعد يثق الأحد بالآخر مع تباين سياساتهم المحلية، وأن كياناتهم قد ضعفت بهشاشة مؤسساتها وهزال مسؤوليها، بل ولم يتم إفساح المجال أمام النخب أن تعلن عن آرائها وأفكارها، بصراحةٍ متناهيةٍ، كي تتم الاستفادة منها، ناهيكم عما حدث من خللٍ في الوعي الجمعي العربي إزاء أي مشروع عربي لا يبتغي أكذوبات الوحدة والحرية والاشتراكية، كما كانت تسوّقه الأنظمة القومية، بل مطالبة هذا الوعي بضرورة الاتفاق على "مبادئ" تحافظ على كينونتنا ووجودنا مجموعة بشرية عريقة، وهي ترى الآخرين ينتصرون عليها، بل ويخترقون مجتمعاتنا ويعبثون بها. ناهيكم عن أن فكرة الانقسام كانت مزروعة في الذات العربية، وهي تغلب فكرة التوحد، بانسلاخ مجموعات سكانية عن واقعها وتاريخها ووجودها جرّاء ما حصل من استخدام الإرهاب والسياسات الجائرة ضد كل المجتمع.. وعليه، لم يقتصر الأمر على الإحباط لكل أبناء الطيف من أبناء الأقليات، بل أصابهم الخذلان جرّاء العنف الذي مورس بقساوةٍ لا توصف. وهكذا، وجدت روح الانفصال تأخذ طريقها إلى التحقيق من أعراق وجماعات تشكل أطيافاً لها مشروعاتها الانفصالية عن ذاك الذي أسموها "الأمة الواحدة".
ما أصاب منظومتنا العربية منذ خمسين سنة كفيل بإيجاد جماعات متوحشة، مثل "داعش" وغيرها، لتسحق مجتمعاتنا ووجودنا.. وكانت السياسات العقيمة التي اتُبعت كافيةً لانتشار الفساد، وتهتك بلداننا إلى الحد الذي جعل نظما سياسية تستعين بالآخر لسحق شعوبها، من خلال قوات عسكرية وقوى أوليغارية ومليشيات مرتبطة بالآخرين. وعليه، لم تعد مجتمعاتنا موحّدة ومتجانسة، كما كانت عبر التاريخ. لم يكن تلاحم مجتمعاتنا أمراً تلقائياً مباشراً، بل أوجدت البيئات العربية وجغرافية العرب حقائق تاريخية، تثبت أنّ المجتمعات، كما كانت في السابق، تنقسم وتتفكّك في حال ضعفها، وتتمرّد وتقسو في حال قوتها. السنوات العجاف التي عاشتها مجتمعاتنا منذ داهمتها الحروب الداخلية والإقليمية والدولية منذ أكثر من خمسين سنة قد منحت العقلاء دروساً حكيمةً، لا يمكن نسيانها أبداً، بل ولابدّ أن تكون خرائط طريق إزاء المستقبل. علمتنا التجارب الصعبة أن منظومتنا الجغرافية العربية بحاجة ماسة إلى "مشروع" استراتيجي، له قوته وتأثيره في الحفاظ على مصالحنا العليا المشتركة، وعلى تعايش نسيج مجتمعاتنا، وعلى تطوير جماليات ثقافتنا، وعلى كلّ وجودنا ومصيرنا.