العربجي المصري

14 يونيو 2015
دعوة العربجية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية (مروان نعماني\فرانس برس)
+ الخط -
يقول الأسطى حنفي "أبو محمود"، الذي نُسب إليه تأليف كتاب "مذكرات عربجي": "صحيح أني نشأت في وسط عربات وخيول بلدي ومسكوفي، وجو لا تسمع فيه إلا طرقعة الكرابيج وإصلاح حدوة الأحصنة، لكن ذلك لم يمنعني أن أنشأ ميالاً إلى الأدب والكتابة والمطالعة وقراءة الأخبار السياسية، فلا أنسى أن أبتاع مع شعير البهائم وبرسيمها جرائد المساء، بل أكثر من ذلك أيها القارئ، طالما فاتني في كثير من الأوقات زبائن (سُقْع) لانشغالي بالسياسة والأدب في الموقف، بينما رفاقي عيونهم متطلعة تصطاد الزبون من آخر الشارع".

جاء هذا اﻟ "عربجي" المثقف ليضرب بسوطه أعناق انتهازيي السياسة المصرية عقب ثورة 1919، فيكشف سرّهم أمام العامَّة بأسلوبٍ أدبيٍّ ساخر. ولم يعرف القراء والنقاد هوية المؤلف "العربجي" يوم صدرت مذكراته ليقدم نقده للحياة السياسية والاجتماعية متقمصاً شخصية من قاع المجتمع قضت حياتها بين "الزرائب" و"المواقف". لكنهم علموا فيما بعد أن المؤلف هو الفنان القدير الممثل سليمان نجيب.

يطلق العوام في مصر لقب "العربجي" على سائق العربة "الكارو"، وهو تركيب لغوي تركي يستخدم لصاحب المهنة بإضافة المقطع "جي" إلى اسم المهنة، مثل: مدفعجي، ومكوجي، ومحولجي... وغيرها.

العربجي عادة مواطن لم يحظ بقدر كافٍ من التعليم والثقافة، ولم يتح له العمل في أي صناعة يستطيع أن يتعلم منها أي نظام، كما أن انفلات الحصان أو البغل أو الحمار من قبضته أمر شائع، فكثيراً ما يشاهد وهو يضرب دابته بعنف مفرط، كما أنه أحياناً لا يستطيع السيطرة على حماره في الطرقات العامة، فلا يلتزم بقواعد المرور ولا بآدابها، ومن هنا صارت لفظة "عربجي" إحدى الألفاظ التي تستخدم في السباب! وذلك على الرغم من أهمية هذه المهنة، وشرف أي مهنة ذات فائدة اجتماعية عموماً. ومن المؤسف أن اللفظة العربية "عربجي" تأتي في بعض المعاجم الإنجليزية بمعنى immoral وهي صفة تشير إلى التهتك واللاأخلاقية.



لا يستخدم العربجي أكثر من ثلاث كلمات، هي: "شي" و"حا" و"هس" في حواره مع حماره أو بغلته أو حصانه، من أجل توجيهه بالسير أو الإسراع أو التوقف، وهي كلمات موروثة لا يُعرف تحديداً علاقتها بالحيوان المستخدم، لكن الحيوان ترجمها سلوكياً وفهم المراد منها؛ فصار ينفذ أوامر العربجي خوفاً من بطش عصاه أو سوطه.

والعربة خشبية على الأغلب، كبيرة الحجم ذات أربع عجلات، أو صغيرة ذات عجلتين، وفي بعض الأحيان تكون معدنية، أو مخصصة لحمل مواد بترولية كالجاز. بعضها تجرها دابة واحدة، والكبيرة تجرها دابتان.

بدأت الحاجة إلى الكارو تتقلص بعد توافر المواصلات الأحدث والأسرع، لكن المهنة لم تندثر نهائياً، فلا تزال بعض المناطق الشعبية والريفية تعتمد على تلك العربات، خاصة في الأسواق لنقل الخضروات.

كثيراً ما ترتبط تلك الدواب بأصحابها ارتباطاً كبيراً، وما زلنا نذكر تلك الأغنية المؤثرة للفنان عبد المنعم مدبولي وهو في حالة يرثى لها بعد أن اضطر لبيع حصانه، وفيها يرصد أيام الثراء حين كانت عربته "الحنطور" تستدعى لزفاف العرائس، فكان يترحم على تلك الأيام الخالية بقوله: "يرحم زمان وليالي زمان"، ثم يغالب دموعه وهو يردد "طيب يا صبر طيب"!

يضطر العربجي "الواعي" أن يعايش حماره أو بغله أو حصانه، فيهتم بإطعامه ومتابعة حالته الصحية وعلاجه إذا مرض، فهو مصدر رزقه الوحيد، وتعرضه لمكروه يعني تعطل مصدر دخله، ونظراً للمستوى المعيشي المنخفض فقد يجتهد العربجي طبياً لتشخيص أمراض الحيوان وتقديم العلاج الملائم من دون اللجوء إلى البيطري إلا في حالة الإحساس بالخطر المحدق. حيث تعد خسارة الحيوان كارثة كبرى تحل به.

من العبارات الشهيرة التي ارتبطت بهذه المهنة عبارة: "كرباج ورا يا أسطى". فالصبيان المشاغبون يتفننون في التشبث بالحنطور أو الكاروّ كي ينتقلوا من مكان إلى مكان من دون أن يدفعوا ثمن "التوصيلة" ومن دون أن ينتبه السائق، وأحياناً يعبثون بالبضائع المحملة، خاصة إذا كان الحمل كبير الحجم ويحول دون رؤيتهم؛ فينادي المارة على العربجي صاحب السوط الطويل، وينبهونه إلى عبث الصبيان بعبارة: "كرباج ورا يا أسطى"، فينتبه ويضرب بسوطه عشوائياً إلى الخلف حتى يفرّ المتطفلون.

وإذا كان العربجي العادي معروفا بقسوته وسوطه المؤلم على ظهر دابته؛ فإن الأسطى حنفي أبو محمود كان يدعو العربجية من السياسيين إلى العدالة الاجتماعية قائلاً: "نظفوا عرباتكم، وأطعموا خيولكم، وَكِّلوهُمْ (أطعموهم) شعير مِشْ كرابيج"!

إقرأ أيضاً: حين يرقص النوبيون: جمال وتفاؤل
دلالات
المساهمون