يشخص الأطباء حالة المغترب العراقي يونادم ألبير(57 عاماً)، على أنها جلطة دماغية نتج عنها شلل نصفي في الجانب الأيمن من الجسم، فيما يؤكد ولده أن خبر الاستيلاء على بيتهم في ضاحية الكرادة في العاصمة بغداد وبيعه باستخدام أوراق مزورة هو السبب الذي أدى الى شلل والده وإصابته، بحالة نفسية حادة يرفض معها الكلام لإي شخص، وحتى المختص النفسي، الذي يزورهم باستمرار في شقتهم الصغيرة التي استقروا فيها، بعد وصولهم في الصيف الماضي الى مدينة مالمو السويدية.
أجبرت التهديدات الأمنية اليومية واستهداف العراقيين المسيحيين، بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، ألبير على ترك منزله الفخم في العاصمة العراقية والتوجة إلى الأردن، حيث استقر مؤقتاً، مدة ثلاثة أعوام، بينما تم تسجيله وعائلته في برنامج إعادة التوطين الخاص بمملكة السويد التي وصلها قبل 9 سنوات.
فادي ألبير، الابن الأكبر للمغترب العراقي المريض، يروي لـ"العربي الجديد" تفاصيل ما وقع معهم "أغلقنا المنزل في حي الوحدة بمنطقة الكرادة بالعاصمة العراقية والبالغ مساحته 1000، سلمنا مفاتيحه إلى إحدى العوائل التي تسكن بجوارنا، منذ فترة طويلة، فوجئنا باتصال منهم أخيراً، بوجود أعمال ترميم وصيانة وتأثيث تجري في بيتهم، وأن المهندس المشرف على الأعمال قدم لهم سند تحويل ملكية جديد صادر باسم المالك الجديد الذي لا يعرفه، أي شخص من سكان المنطقة".
يوضح ألبير الابن لــ"العربي الجديد": أنه وبمجرد تلقيه الأخبار السيئة من بغداد قام وبمساعدة بعض الأصدقاء بتوكيل محام متخصص بشؤون نزاعات ملكية العقارات وأرسل له بالبريد الجوي كافة المستمسكات التي تثبت عائدية المنزل لهم، وأرفق معها مجموعة من الصور الفوتوغرافية العائلية لهم في غرف وحديقة المنزل، ولكن حالة الإحباط تضاعفت لديهم بعد الجلسة الأولى في المحكمة لأن المحامي اعتذر عن متابعة القضية، بكلمات فهم منها ألبير أنه "تعرض لتهديد شديد جعله يرفض الاستمرار فيها على الرغم من كل المغريات المالية التي عرضتها العائلة المغتربة".
اقرأ أيضاً: تردي بيئة العرب [5/7].. العراقيون يتناولون اليورانيوم في طعامهم
مليارات الدولارات
تعرف الشاب ألبير، لاحقاً، على مجموعة من العراقيين القاطنين، في مدن سويدية عدة، ويعانون من مشكلة مماثلة، وهو ما دعاهم إلى تسجيل شهاداتهم وتسليم نسخ من وثائقهم إلى جمعيات حقوق الإنسان العاملة في السويد على أمل مفاتحة الحكومة العراقية من أجل العمل على استعادة عقاراتهم المغتصبة والتي يقولون إن أسعارها مجتمعة تبلغ مليارات عدة، من الدولارات.
يؤكد البرلماني العراقي والقيادي في كتلة الرافدين المسيحية، عماد يوخنا، وجود حالات تهديد بالتصفية الجسدية طالت محامين عدة، كانوا مكلفين متابعة قضايا الاستيلاء على أملاك المسيحيين، في بغداد فضلاً عن حملة ترهيب واسعة استهدفت المسيحيين وسعت إلى تخويفهم من مغبة العودة إلى العراق ورفع شكاوى أو المطالبة باسترداد حقوقهم المنهوبة.
السياسي العراقي يوخنا يؤكد لـ"العربي الجديد" أن عمليات الاستيلاء على المنازل والأراضي تتم بواسطة شبكة مكونه بالأساس من موظفين عاملين في دائرة التسجيل العقاري يقومون بتشخيص العقارات العائدة لمواطنين مسيحيين ويتم التأكد من كونهم متواجدين فيها أو مسافرين، مضيفاً أن المرحلة الثانية تتضمن استخراج مستمسكات ووثائق مزورة يتم استخدامها في عمليات البيع وتحويل الملكية التي يدخل فيها مسؤولون محليون في مناطق البيع والشراء وضباط في دوائر وأجهزة أمنية بالإضافة إلى قضاة مرتشين.
على الرغم من بيع مئات العقارات الثمينة وبطرق متشابهة إلا أن البرلماني يوخنا لم يسمع بمعاقبة شخص واحد متورط في هذه العمليات التي يرى أن جزءاً من حلها هو تضمين عمليات البيع ورقة صادرة من الكنيسة تؤيد موافقة صاحب العقار الأصلي على بيعه ونقل ملكيته إلى المالك الجديد.
ويأمل يوخنا أن يكون لهذه القضية المؤلمة والمخجلة مكان ضمن حملة الإصلاحات التي أعلن عنها، أخيراً، رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، مضيفاً، أن علميات النهب والاحتيال هذه جعلت الكثير من العوائل المسيحية لا تملك شيئاً بعد أن كانت صاحبة عقارات ذات أسعار باهظة وفي أرقى الأحياء السكنية في العاصمة بغداد.
تهديدات من نافذين
يتلقى الأب، هرمز نعوم، من كنيسة السريان في بغداد (يعيش حالياً في إقليم كردستان)، بشكل يومي شكاوى متشابهة من مواطنين باعوا أملاكهم سابقاً، تحت التهديد ويريدون اليوم أن يقوموا بأي تحرك ممكن يضمن لهم استرجاعها، مبيناً أنه في أغلب الحالات تم بيع المنازل والأراضي بأسعار تقل عن ربع قيمتها المتداولة في سوق العقارات.
يعرض الأب نعوم على كاتب التحقيق، عقد بيع وشراء تم تحريره في بغداد سنة 2010 وينص على بيع منزل تبلغ مساحته 600 متر في منطقة تجارية مزدحمة بضاحية الكرادة وبسعر 100 ألف دولار تم تحويلها إلى البائع المغلوب على أمره والساكن في تركيا، موضحاً أن السعر الحقيقي لهذا المنزل يبلغ 850 ألف دولار بسعر صرف الدولار في تلك السنة.
رجل الدين المسيحي، ينقل عن صاحب البيت المذكور، إن أطرافاً ذات نفوذ حزبي وعسكري في حي الكرادة اتصلت به وخيرته بين البيع بسعرهم المعروض أو الاستيلاء عليه بطريقتهم الخاصة، مشيراً إلى أن المالك المغترب فضل الحصول على الثمن البخس بدلاً من ذهاب البيت مجاناً إلى ملكية الجهة التي حولته إلى مقر حزبي يتم فيه وعظ الجماهير بأهمية أداء الأمانات إلى أهلها، بحسب تعبيره.
الأب السرياني الذي غادر بغداد خوفاً من التصفية، يرى أن الجهة التي تقوم بسرقة عقار شخص مسيحي تعرف تماماً أنه لا يمتلك عشيرة قوية أو تشكيل مسلح يدافع عنه أو حتى ممثل سياسي أو وجه إعلامي، وبالتالي فإن رد الفعل لن يكون ذا قيمة تذكر وستتواصل حالات السرقة بهدوء كبير، ولن تكون هناك خشية من عواقبها، واصفاً ما حصل في العراق بأنه عملية جراحية سيئة تم بموجبها تغيير التركيبة الديموغرافية لمناطق العراق وبما فيها العاصمة التي غاب المكون المسيحي تماماً حتى عن الأحياء التي كان يشكل الأغلبية فيها.
اقرأ أيضاً: أنفاق الأنبار..استنساخ تجربة غزة على الحدود السورية العراقية
حقوقي: الكرادة شهد الجزء الأكبر من الاتجار القسري
يعكف مدير مركز بغداد لحقوق الإنسان، مهند العيساوي، على جمع بعض من الوثائق المزورة التي تم استخدامها في عمليات بيع وتحويل أملاك المسيحيين في بغداد، ولكنه لا يستطيع تقديم أي وعد بإمكانية استرجاع هذه العقارات التي باتت تحت سيطرة جهات متنفذة ولها أذرع سلطوية طويلة وعريضة، على حد تعبيره.
العيساوي قال لـ"العربي الجديد" إن حي الكرادة شهد الرقم الأكبر من عمليات المتاجرة القسرية والاستيلاء على عقارات المسيحيين في بغداد، موضحاً أن القانون يتيح للمتضررين أن يقدموا بصيغة فردية أو جماعية طعوناً رسمية في صحة المستمسكات التي تم استخدامها في عمليات نقل الملكية مع الاعتماد على شهادات جيران العقار المباع والشهود الذين وقعوا على عقود البيع والشراء.
مدير المركز المختص في رصد وتشخيص انتهاكات حقوق الإنسان في العراق يتهم السلطات بعدم المحافظة على حقوق المواطنين وانتهاك المادة 23 من الدستور العراقي النافذ والتي تنص على أن الملكية الخاصة مصونة لجميع العراقيين، مشدداً على أن المواد الدستورية واضحة وصريحة وتؤكد مسؤولية الدولة وواجبها في حماية وصيانة ملكية الأفراد.
التحقيقات الأولية التي جرت بشكل سري في لجنة النزاهة التابعة للبرلمان العراقي أظهرت حصول عمليات تزوير متكاملة في دوائر التسجيل العقاري والأحوال المدنية، مهدت لتحويل ملكية العشرات من العقارات إلى أشخاص قاموا بتمثيل دور المالك الأصلي، قبل أن يقوموا ببيعها الى أطراف تمثل مصالح ونشاطات جهات حزبية.
يؤكد نائب برلماني حالي وعضو في لجنة النزاهة، تولى متابعة التحقيقات في ملكية العقارات لـ"العربي الجديد" أنه "توصل إلى حقائق منها أن نسبة كبيرة من العقارات تم وضع اليد عليها عقب الغزو الأمريكي مباشرةً وبحجة أن أصحابها هم من المقربين من رئيس النظام العراقي السابق، صدام حسين، بينما تمت الاستفادة من ظروف الفوضى التي سادت مرحلة الحرب الطائفية في سنوات 2006 و 2007 واستخدام أسلوب الحرائق المفتعلة في دوائر العقار من أجل تضييع المستمسكات الثبوتية لهذه العقارات".
ومع أن التحقيقات التي أشرف عليها عضو لجنة النزاهة (رفض الكشف عن اسمه)، قد توصلت إلى نتائج جيدة ومهمة إلا أنه اختار، لاحقاً، الاحتفاظ بالمعلومات وعدم نشرها بشكل رسمي بعد اعتذار عدد من زملائه عن الاستمرار في مواصلة التحقيق، نظراً لما تضمنه من خطورة الصدام بالجهات السياسية المتورطة في عمليات البيع والشراء والاستيلاء على العقارات الأغلى ثمناً في بغداد.