العبودية الحديثة

20 فبراير 2020
مليار إنسان في فقر مدقع حول العالم (Getty)
+ الخط -

 

من المشاهد المطبوعة في أذهاننا أن البشر قد استعبد بعضُهم بعضا، وأكرهوا على الخدمة المجانية من غزاةٍ أغاروا عليهم، فاستحيوا نساءهم واسترقّوا رجالهم. ولذلك، صار العرف في أذهاننا أن العبيد هم من يضطرّون للعمل بسبب سبايتهم في الحروب.

وخلال أيام الإمبراطورية الرومانية، صار العبيد لهم نخاسة وبورصة، يُباعون فيها ويشترون كما تباع البضائع والأسهم.

وقد نهى الدين الإسلامي عن الرق والعبودية. وعالج هذا الموضوع بتؤدةٍ ورويةٍ، لأن غيابهما فجأة كان سيحطّم أساساً متيناً قام عليه اقتصاد العرب إبّان الجاهلية، وفي بدايات الدعوة الإسلامية.

وهنا يشير الشاعر أحمد شوقي صراحة، في قصيدته "ولد الهدى فالكائنات ضياءُ"، إلى أن الرسول (عليه الصلاة والسلام) حرّر العبيد تدريجيا، بينما عالجها أبراهام لنكولن (الرئيس الأميركي السادس عشر) باندفاع، ما أدّى إلى الإضرار بالملايين منهم، حينما غادروا البيوت والمزارع التي عملوا فيها جنوب الولايات المتحدة، فأصبحوا في شرق البلاد وشمالها أكثر ضياعاً وعرضة لعبودية جديدة. ويقول شوقي في هذا: داويتَ متّئداً، وداوَوا طفرةً/ وأخفُّ من بعض الدواء الداءُ.

ولكن ما دام العالم يعاني من الحروب، والغزو، وفقدان سيطرة القانون، فإن العبودية سوف تزدهر، وستجد من الناس من هم مصاصون للدماء من الراغبين في تحقيق فوائض من جهد الآخرين.

واستغلال الإنسان أخاه الإنسان ما يزال قائماً، وعالمنا المتحضر ما يزال يعتبر الشخص عبداً، ما دام مستكرها على العمل لحساب غيره، راضياً بالنزر اليسير الذي بالكاد يوفر له أدنى ضرورات الحياة.

وهذا التعريف الضيق قلل من إعداد الرقيق في العالم. فحسب إحصاءات دائرة محاربة العبودية في وزارة الخارجية الأميركية، فإن عددهم يتراوح بين 25 و45 مليون شخص، أما منظمة العمل الدولية فتقدّرهم بحوالي 40.3 مليون شخص.

ولو قبلنا أن الرقم هو أربعون مليوناً، فهو يساوي أقل من نصف بالمئة من مجموع سكان العالم، وهو في تقديري رقم قليل ومتواضع، ولنحاول هنا تفسير هذا الأمر.

حسب الاقتصادي الفرنسي، توماس بيكيتي (Thomas Peketty)، في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، الأجور تتناقص، بينما تزداد الأرباح. ولذلك، قدّر أن 99% من ثروة العالم المستثمرة هي تحت سيطرة 1% فقط من سكان العالم، أو ما يساوي 75 مليون إنسان فقط من أصل 7.5 مليارات نسمة.

هذا التباين الكبير يترك حوالي مليار إنسان في حالة فقر مدقع. أي أنهم لا يحصلون إلا على دولار وتسعين سنتاً أميركياً في اليوم، ما يجعلهم محرومين من معظم الحاجات الأساسية للإنسان.

ونصف هؤلاء يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم، حسب أسعار العام 2018. فماذا يفعل هؤلاء المليار شخص من أجل الحصول على أبسط الحقوق وأمسّ الحاجات؟ إنهم يعرضون أنفسهم للبيع، أو يرمون أنفسهم في البحر، أو يلجأون لكل المحرمات من قتل وتهريب وبيع أعراض وتجارة المخدرات، والتهريب، وبيع الأعضاء، وغيرها.

وستجد في عالمهم أناساً مستعدّين لاستغلالهم عبر عصاباتٍ منظّمة. وللعالم السفلي الذي يعشش تحت الأرض منظماته ووسائله وطرقه.

وهم يلجؤون كما تفعل عصابات الإجرام المنظم في الغرب والدول المتقدمة إلى تنظيمٍ دقيق، لا يعرف الرحمة ولا التسامح، ويتحالف مع قوى الفساد في الحكومات، وأخيراً فهم مستخدمون وسائل التواصل الحديثة، ويملكون القدرة على استخدامها بشكل أكثر فعالية وفاعلية من الحكومات البيروقراطية. وصار التشبيك بين العصابات في الدول النامية والدول الغنية مصدراً إضافياً للرق الحديث.

ولننظر إلى ما جرى في الوطن العربي خلال السنوات العشر الأخيرة من حروب، ودمار، ولجوء، واقتلاع وتشريد، وإعادة تموضع. ويبلغ عدد هؤلاء الذين يُتّموا أو شُرّدوا أو هُجّروا بعشرات الملايين. ولو أضفنا إليهم الفقراء والمدقعين في أفريقيا، والذين يلتقون على شواطئ ليبيا للهروب إلى أوروبا، فإن أعدادهم ستكون أكبر من ذلك بكثير.

إنهم رقيقٌ يسعى، بكل الطرق، إلى تأمين انتقاله عبر مخاطرة بحرية إلى أوروبا للقبول بأجور متدنية في أي مكان يصلون إليه، طمعاً في الوصول إلى بلاد الحليب والعسل.

وعندما يصل منهم من يصل، فإنهم إما أن ينفذوا من قبضة السلطات الأمنية، ويهيموا في الشوارع مختبئين، خشية أن يلقى عليهم القبض، ويطردوا خارج البلد الأوروبي الذي وصلوا إليه، أو أنهم ينجون ويقعون تحت سلطة من يرضى بتشغيلهم في مقابل أجر زهيد تحت التهديد بالشكوى عليهم، أو تلتقطهم عصابة فتستغلهم هم وعيالهم.

وبالطبع، هنالك مهاجرون أذكياء اجتماعياً يستطيعون بالصبر أن يشقّوا طريقهم، وهنالك أناس أصحاب كفاءات ومهارات علمية وعملية ممن يجدون من يشفع لهم. ولكن هذه القصص قليلة. والأغلبية الساحقة يعيشون من فقر إلى فقر.

ربما تراجع العالم عن خطف الناس والأطفال والإناث، وبيعهم للعمل أو للاستغلال بالشكل الذي عرفناه في العصور القديمة. لكن الأدهى هذه الأيام، أن مئات الملايين في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وأميركا اللاتينية يغادرون بلدانهم طواعية، ويدفعون ثمناً باهظاً مقابل أن يصبحوا عبيداً، ولو سنوات على الأقل، حتى يجدوا تحقيق الوعد بحياة أفضل في بلدان أخرى.

المسلمون هم أكثر خلق الله تعرّضاً للعبودية بكل أبعادها وأنواعها ودوافعها، وأصحاب الدين الذي حرّر العبيد يلاقي أتباعه اليوم أشدّ أنواع العنت والاستغلال والعبودية في هذا العالم.

وإحصاءات الأمم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية، والمنظمات غير الحكومية التي تتحدث عن أعداد العبيد في العالم لا تعكس الأرقام الفعلية.

ولو أعدنا تعريف كلمة العبودية لتشمل الذين يعملون برضاهم أو غصباً عنهم أو تحت ظروفهم القاسية مقابل أجور زهيدة، لارتفع الرقم إلى نصف مليار نسمة، يحققون فوائض لمن يستغلونهم لن تقل قيمتها عن تريليون دولار سنوياً.

المساهمون