العبد يروي حكايته
تجدّدت في العالم، بعد واقعة قتل جورج فلويد في أميركا، ثم المظاهرات الساخطة على التمييز والعنصرية، انتباهاتٌ إلى تاريخ العبودية والاسترقاق. وبدا أن مراجعاتٍ في هذا التاريخ، وبشأن ما قارفه "رموزٌ" فيه، باتت ملحّةً على راهن الإنسانية، وضميرِها خصوصا، إن جاز تعبيرٌ كهذا، سيما في الغربيْن، الأميركي والأوروبي. وهذه قضيةٌ مركّبةٌ، ومحمولاتُها الثقافية والسياسية كثيرة. إذا كان قد اكترث بها أهل الدرْس في التاريخ والحضارات ومسالك الأمم، وإذا نجح بعضٌ منهم في هذا وأخفق آخرون، بحسب منظوراتهم ومعايناتهم، ومقادير العلمية والمهنية البحثية لديهم، فإن قليلين من ناس الأدب، من ذوي الكفاءة فيه، انشغلوا بموضوعةٍ عويصةٍ كهذه، أو للتحوّط من التزيد وفُتيا الواحد منا بما لا يعرِف، قليلون تفرّدوا بصنيعٍ كهذا. وهنا بالضبط، وليس في أي موضعٍ آخر، في الوسع أن ينكتب ويُقال، من دون الوقوع بشطط طفيفٍ أو كثير، إن المغربية المقيمة في الولايات المتحدة، ليلى العلمي (52 عاما)، أنجزت روايةً استثنائيةً في هذا المنحى، ثمينةَ القيمة في ضرب سردية المتحضّر الأوروبي عن نفسه لمّا ذهب إلى هناك، إلى أراضي الهنود (الحُمر)، وارتكب الإبادة والإستعباد والإذلال والاسترقاق. إنها رواية "The Moor’s Account"، وصدرت في 2014. نقلتها نوف الميموني إلى العربية بعنوان "ما رواه المغربي" (دار أثر، الدمام، 2017)، العربية التي أفادت من إيقاعات ابن بطوطة وابن جبير، وغيرهما من قدامى الرّحالة العرب، على ما نوّهت المترجمة، مع الحفاظ، في الوقت نفسه، على "أساليب السرد الحديثة التي وظفتها المؤلفة للحفاظ على أبعاد النص الثقافية واللغوية"، كما صدّرت ترجمتَها النابهة هذه الرواية التي قدّروها هناك في أميركا، لمّا نالت عشر جوائز (!)، منها بوليتزر وبوكر و"نيويورك تايمز لأشهر الكتب".
.. ".. وإنما لذّة القصة، أيها القارئ، في روايتها". يقول هذا صاحب المذكّرات المتخيّلة التي أجرتها ليلى العلمي على لسان مصطفى بن محمد بن عبد السلام الزمّوري، السارد الذي طاف مع هذا القارئ في 23 حكاية، وهو مغربيٌّ باع نفسه، مقابل ريالاتٍ لأمه وأخويه في أزمور في المغرب، فصار عبدا عند تاجر رقيق برتغالي، قبل أن يشتريه قشتاليٌّ، أخذَه مع حملةٍ إسبانية إلى لافلوريدا، في العام 1527. تقرأ في 416 صفحة مرويّات هذا المملوك، ومحكيّاته، عن رحلاته من هناك إلى إشبيلية ثم إلى المكسيك، وعيشِه بين قبائل الهنود التي تزوّج من إحداها، وزاول بينهم، مع ثلاثةٍ معه، أحدُهم سيّدُه ومالكه، التطبيب، بعد أن نجوا من غرق سفينتهم، كان فيها 350 فردا. وهذه واحدةٌ من حكاياتٍ مسترسلةٍ تحتشد في النص الذي بذلت ليلى العلمي في إنجازه جهدا بحثيا مُضنيا، فبدا توثيقيّا في واحدٍ من مستوياته الظاهرة، تسجيليا ربما يُحدِث إملالا عند الاستغراق في قراءة تفاصيل وفيرةٍ فيه عن أجواء ذلك العالم. ولكن الأهم هنا أن صاحب الحكاية هو العبد الذي كان تاجرا ماهرا في بلده في زمن مضى. له لسانٌ يحكي به، ومشاعر يضجّ الكلام عنها، وعينان شاهدتا الإذلال والاستعباد اللذيْن مارسهما الغازي الإسباني في هذه الأرض.
جوهر "ما رواه المغربي" (الرواية الثانية من بين أربعٍ لكاتبتها) هنا. ومصطفى الزموري شخصية حقيقية، ورد اسمُه، على ما أوضحت الروائية، في سطرٍ يتيمٍ في سجل إسباني. وربما تزيّد باحثون، لمّا صادفوا اسمه في غير مؤلّف أو وثيقة، فاعتبروه "أول مستكشفٍ أسود في أميركا". والاستكشاف حاضرٌ، في بعض عمل صاحبنا هذا، كما أبانت الرواية، أو كما بَنَت مخيّلة ليلى العلمي الحاذقة المسار الحكائي الطويل، المُثقل بالوقائع والبشر، وبكثيرين من "الهنود" في أرضهم، لهم أسماؤهم وأنسابهم وأحلامهم وأشواقهم، وعذاباتُهم من قبل ومن بعد، وهم الغائبون المغيّبون في مروّيات الغزاة الذين دوّنوا ما دوّنوا. افتتح الفقير إلى ربه، مصطفى الزموري، حكايته بأنه يسجّل في "المُحرّر" هذا "حياتَه وترحالَه من مدينة أزمور إلى بلاد الهند التي وطأ أرضَها عبدا مملوكا". وتنتهي حكاياتُه ولم يبلغ مُرادَه الذي اشتهاه، في سنوات رقّه، أن يعود إلى أزمور، على ما بقي لسانُه يشفّ ممّا في جوانحه طوال صفحات النص الفاتن .. ظل هناك، ولم ينل كتابا من سيّده يحرّره. ولكنه قال الكثير من المُفزع الذي قارفه الغازون في "بلاد الهنود"، لمّا كتبوا فصلا فادحا من كتاب العبودية في تاريخ الإنسانية .. شكرا ليلى العلمي.