عاد العالم للاحتماء بالذهب مرة أخرى مع زيادة المخاطر، وخاصة الصحية والاقتصادية، وتعثر حالات الإقلاع الاقتصادي في العديد من دول العالم، وزادت موجة الاحتماء بالمعدن النفيس مع بوادر ظهور موجة ثانية من الإصابات بفيروس كورونا، وهو ما سيترتب عنها تأجيل التعافي الاقتصادي والأنشطة التجارية والخدمية والسياحية، وزيادة حالات التعثر والبطالة والتضخم، إضافة إلى استمرار البنوك المركزية العالمية والحكومات المختلفة في ضخ مزيد من تريليونات الدولارات في محاولة للحيلولة دون انهيار الاقتصاد وإفلاس الشركات ووقف موجة تسريح العمالة وخفض رواتبها.
ومع زيادة مخاطر كورونا، سارعت بنوك الاستثمار العالمية وكبار المستثمرين نحو شراء مزيد من المعدن النفيس باعتباره أبرز أداة استثمار آمنة تحميهم من مخاطر التضخم وانخفاض العملات وتقلبها وأسعار الفائدة الصفرية التي باتت تتسم بها العملات الرئيسية، كما تحميهم من تقلبات البورصات وأسعار الأسهم، ومن العائد الضعيف لأذون وسندات الخزانة، وهو ما رفع سعر الأوقية لتقفز إلى أكثر من 1800 دولار اليوم الخميس، وهو أعلى مستوى لها في نحو 9 أعوام.
وحسب تلك المعطيات، يبدو أن الذهب متجه إلى مواصلة الارتفاع، سواء على المدى القصير أو الطويل. فهناك ما يكفي من الأسباب والمحفزات لكي يصل إلى مستوى قياسي جديد قبل نهاية العام الجاري، حسب محللين وتجار، بل إن كبريات البنوك الاستثمارية العالمية، ومنها مصرفا سيتي بنك وغولدمان ساكس الأميركيان، تراهن على ارتفاع أسعار الذهب إلى 2000 دولار في العام المقبل، بسبب استمرار البنوك المركزية العالمية والحكومات في ضخ مزيد من السيولة في البنوك وأسواق النقد والمال لحمايتها من التدحرج نحو الانهيار أو الافلاس، كذلك فإن السعر مرشح للزيادة مع زيادة الطلب على الذهب من قبل العديد من البنوك المركزية، وكذا من قبل المدخرين في الاقتصادات الناشئة، ومنها الأسواق العربية.
لكن معطيات أخرى تتوقع وصول سعر الأوقية إلى 2000 دولار قبل نهاية العام الجاري، مدعوماً باستمرار المخاوف والاضطرابات والأزمات العالمية، وعلى رأسها مخاطر انكماش الاقتصاد العالمي حسب توقعات صندوق النقد الدولي، وزيادة المخاوف من التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا وعدم ظهور دواء أو لقاح للفيروس خلال عام 2020.
دليل ذلك ما كشفه مسؤولون في مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأميركي) يوم الأربعاء، أن التعافي في الاقتصاد الأميركي، أكبر اقتصاد في العالم، قد يتعثر، ويمتد هذا القلق أيضاً إلى بريطانيا، حيث تعهد وزير المالية، ريشي سوناك، أمس الأربعاء بتدابير جديدة لإنعاش الاقتصاد بقيمة 30 مليار جنيه إسترليني (38 مليار دولار)، لتفادي أزمة بطالة، من بين التدابير تخفيض الضريبة على القيمة المضافة لبعض القطاعات وإعانات لتجديد المباني ومساعدات لتوظيف الشباب.
كما رصدت بنوك كبرى زيادة في الدين العالمي، مع توسع الحكومات في الاقتراض لمواجهة تداعيات كورونا، وتوقعت أن يرتفع معدل الدين الأميركي بنحو 30% في العامين المقبلين، وأن يزيد معدل الدين في منطقة اليورو ليصل إلى نحو 100% في 2020، مقارنة بنحو 85 بالمئة في 2019، وهو ما يشكل ارهاقا إضافيا للاقتصاد العالمي وزيادة في المخاطر، ويدفع نحو زيادة الاقبال على الذهب.
وحتى في حال تشغيل الاقتصاديات الكبرى، إن تعافي مثل هذه الاقتصاديات يحتاج إلى وقت قد يمتد لعام وربما أكثر، وحتى حدوث مثل هذا التعافي، فإن العالم سيواصل سياسة الاحتماء بالمعدن الأصفر بسبب قلة مخاطره.
وإضافة إلى الأزمات والمخاطر الاقتصادية والصحية، دفعت عدة عوامل المستثمرين نحو الاحتماء بالذهب، وبالتالي ارتفاع سعره في الفترة الأخيرة منها مثلَي الضعف المحتمل في العديد من العملات الرئيسية في أسواق الصرف، ومنها الدولار واليورو، مع استمرار حزم التحفيز في الاقتصادات العالمية بسبب زيادة معدلات الإصابة بفيروس كوفيد 19، حيث ضخّت المصارف المركزية الكبرى والحكومات أكثر من 18 تريليون دولار خلال الشهور الماضية لإنقاذ الاقتصادات وأسواق المال العالمية من الإفلاس.
وهناك عامل آخر يتعلق بتعرض معظم مناجم إنتاج الذهب الكبرى حول العالم للإغلاق، أو العمل بطاقة أقل بكثير من طاقتها الفعلية، مع إجراءات العزل وفرض قيود على حركة العمال والمخاوف المستمرة من انتشار فيروس كورونا.
إذاً، من المتوقع أن يحافظ الذهب على مكاسبه بشكل كبير في الفترة المقبلة، مع استمرار كل هذه المخاطر، وهو ما يرشّح سعره لمواصلة الارتفاع.