10 فبراير 2024
العادة غير السرية
اعتاد أنيس منصور الاستيقاظ في الرابعة صباحاً، عادة لم يتخلص منها، إن نام مبكراً أو متأخراً فساعته البيولوجية وطّنت نفسها على مغادرة السرير في الرابعة فجراً؛ فلا حاجة للمنبه أو الجوال أو صديق يوقظه، انتقل الأمر إلى حيز التلقائية.
يخرج إلى بلكونة غرفته في الفندق، وينادي جاره مصطفى حسين الغارق في نومه، ويسأله: "أنت نايم ولا إيه؟" ليجيبه "طبعاً.. أنت ناسي رجعنا الساعة كم!". يغط حسين في نوم عميق، وقد اعتاد - وأغلبنا على شاكلته - أن يقتص لنفسه ويعوّض ما فاته من ساعات نومه، وليس في وسعك أن تقنع أنيس منصور بالعودة إلى فراشه، ولا أن تقنع مصطفى حسين بالنهوض ومشاطرة صاحبه النشاط المبكر؛ فالعادة سيدة الموقف في كثير من نشاطاتنا الحياتية.
ويسأل منصور جاره للمرة الثانية "تنصحني أعمل إيه؟"، ليرد عليه بحرقة "تنام يا أخي!"، وظن مصطفى حسين أن جاره سيأخذ بنصيحته، ولم يدرك أن أنيس منصور قد خلق من الاستيقاظ مبكرًا عادة صعبة الكسر، وأن هذه العادة غيرت حياته من إنسان عادي إلى كاتب مبدع ومفكر مدهش وفيلسوف عصري من طراز فريد.
العادة عبادة كما يحلو لكثيرين أن يرددوا، لكن العادة نوعان؛ فعادة حسنة تصنع أسطورتك الشخصية، وتنجح في أعمالك وتحفز من حولك وتخلق هالة من النشاط، وتحلق في سماوات النجاح وإن لم يكن نجاحاً مدوّياً! وعادة سيئة تضغطك وتقلل من تمددك وتعزلك عن محيطك؛ فأنت تنغلق على ذاتك وترفض آراء الآخرين، أو تتحاشى ممارسة أنشطة جديدة، وتقلع عن التفكير خارج خطوط بعينها، وتصبح أسير الرتابة والنمطية والبيروقراطية والروتين القاتل!
يحاول البعض الدندنة على وتر خلق العادات، ويتمادون في التفاؤل لدرجات أقرب إلى المحال؛ فمثلًا تنتشر الكتب عن خلق عادة جديدة في 21 يومًا، واكتساب لغة جديدة في 21 يومًا، وتعديل طريقة حياتك ونمط الغذاء الصحي في 21 يومًا، والبعض ارتأى أن هذه الـ21 يومًا ليست كافية؛ فأضاف إليها بدافع النبل والكرم سبعة أيام، وعليه فإن تغيير حياتك للأفضل يتطلب منك 28 يومًا لا أكثر!
لغز الواحد وعشرين يومًا يحتاج إلى تفسير؛ فهل له علاقة بالقرن الحادي والعشرين؟ أم أن المسألة رجم بالغيب؟ أم أن تفسيرًا منطقيًا يرتبط بالرقم؟ شغلت هذه الفكرة عقل الطبيب النفسي، جيرمي دين، ونقّب حولها ليعرف الدلالة النفسية والعلمية لها، وخرج بمجموعة من النتائج التي ضمَّنها كتابه "صنع العادات وكسر العادات"، وهو كتاب قمين بالمطالعة والمدارسة.
أما سر الـ21 يومًا فقد خرج من كيس جراح التجميل، ماكسويل مالتز، في كتابه علم التحكم النفسي Psycho-Cybernetics المنشور سنة 1960، وفيه أن الأشخاص مبتوري الأطراف احتاجوا إلى 21 يومًا للتكيف مع الصدمة، ثم عمَّم مالتز ملاحظته ليخرج بنتيجة مفادها أن كل تغيير رئيسي في الحياة يحتاج إلى 21 يومًا! ما يعني أن سر الواحد وعشرين يومًا لم يزد عن كونه اجتهاداً شخصياً يفتقر لأيّ سند علمي.
بل إن دراسة حديثة في جامعة لندن نسفت ادعاءات مالتز، وذلك بمتابعة السلوك اليومي لـ96 شخصًا، كانوا يحاولون تحويل هذا السلوك إلى عادة، وانتهى الباحثون إلى أن العادة إما أن تكون عادة سهلة، ويمكن التعود عليها خلال 20 يومًا، أو عادة صعبة كأن تبتسم الزوجة في وجه زوجها صباحًا، أو أن يبادرها هو بضحكة أو يجاملها من دون مناسبة، أو أن يحاول أحد "السناجل" ممارسة الرياضة بانتظام، وفي مثل هذه الحالات قد يحتاج المرء 66 – 84 يومًا.
وهناك عادات أكثر صعوبة كأن يحاول الزوج مغالبة نفسه وأن يقول لزوجته على حين غفلة "بحبك"، وعادات أخرى تصل إلى هذه الدرجة من الصعوبة، وتحتاج في المتوسط إلى 254 يومًا، وكل هذا يدحض - جزئيًا - ما ذهب إليه مالتز.
العادات السهلة أو البسيطة قد تتوافق مع قاعدة 21 يومًا، بينما العادات الصعبة مثل استيقاظ أنيس منصور في الرابعة فجرًا لن تخضع لقالب ماكسويل مالتز، وتؤكد أن أنيس منصور درَّب نفسه طويلًا ليمتلك هذه العادة. قد تجد مقاومة عنيفة في البداية، وتقل المقاومة تدريجيًا وتحل محلها التلقائية؛ فأنت تكتشف أن أحدهم مبتدئ في عالم القيادة، يبدو عليه التوتر والتصنع في أفعاله وردود أفعاله، لكن بعد مدة - طالت أم قصرت - يختفي التصنع وتظهر التلقائية.
والتلقائية من علامات العادة؛ فإنك - غالبًا - لن تسأل نفسك تفسيرًا لما تؤديه بشكلٍ تلقائي، وإن سألت نفسك هذا السؤال فله دلالة مهمة، وتتمثل في احتمال كسر هذه العادة وتغييرها. مع التلقائية يأتي غياب العاطفة، وهذه علامة أخرى من علامات العادة؛ فبمرور الوقت تفقد اللذة العاطفية التي صاحبت المرات الأولى لقيادة السيارة أو للجلوس مع زوجتك أو الفرحة بعملك الجديد.
لم تعد تفرح بهذه الأمور، لكنك ربما تفرح بأشياء أخرى ترتبط بها، كأن تخرج بسيارتك نزهة في مكان مختلف، أو أن تغامر وتشتري لزوجتك شيئًا يفرحها، أو أن تحظى في عملك بمكافأة ولو معنوية. ثمة رابط ثالث في عالم العادة، ويأتي مع التلقائية وفقدان العاطفة، ولا يقل عنهما أهمية ودلالة؛ إنه الملاحظة! يلاحظ الناس من حولك بجلاء تكرار عاداتك، والنمطية التي تتصرف بها، والقالب الذي تصب فيه تحركاته وردود أفعالك، وأنت إذا جلست منفردًا بنفسك ووضعت سيناريو يومك؛ ستجد أنه متشابه إلى حدٍ بعيد، ومتكرر في كثيرٍ من تفاصيله، وهذا ما يؤطر عالم العادة.
قبل أن يجري إيفان بافلوف تجربته المدهشة، لم نكن نعرف العادة أو دائرة خلق العادة، ومعه أدركنا الكثير من تفاصيلها، وكل يومٍ نكتشف شيئًا مدهشًا يعزز ضرورة فهم عاداتنا، ويساعدنا في تحسين جودة حياتنا. كتاب جيرمي دين مدهش وسيأخذ بيدك في أمور كثيرة، ويعد إضافة وليس بديلًا عن كتاب "قوة العادات" للكاتب تشارليز دويج، وعاداتك الحياتية تستحق أن تقرأ الكتابين، وأن تكوِّن لنفسك عادة قرائية تلقائية وثابتة.
حبذا لو تطوِّر لنفسك عادة القراءة كما طور أنيس منصور عادة الاستيقاظ فجرًا للقراءة والكتابة، ولربما تصبح يومًا ما مؤثرًا في محيطك الصغير أو مجتمعك أو عالمنا العربي أو العالم بأسره، وليس في ذلك جنوح أو مبالغة مثل مبالغة ماكسويل مالتز، بل إنها قوةٌ تحققها لك قوة العادة التي تتشربها لتصبح طبعًا من طباع حياتك، وما عُلِّمَ الإنسانُ إلا ليعلما!
يخرج إلى بلكونة غرفته في الفندق، وينادي جاره مصطفى حسين الغارق في نومه، ويسأله: "أنت نايم ولا إيه؟" ليجيبه "طبعاً.. أنت ناسي رجعنا الساعة كم!". يغط حسين في نوم عميق، وقد اعتاد - وأغلبنا على شاكلته - أن يقتص لنفسه ويعوّض ما فاته من ساعات نومه، وليس في وسعك أن تقنع أنيس منصور بالعودة إلى فراشه، ولا أن تقنع مصطفى حسين بالنهوض ومشاطرة صاحبه النشاط المبكر؛ فالعادة سيدة الموقف في كثير من نشاطاتنا الحياتية.
ويسأل منصور جاره للمرة الثانية "تنصحني أعمل إيه؟"، ليرد عليه بحرقة "تنام يا أخي!"، وظن مصطفى حسين أن جاره سيأخذ بنصيحته، ولم يدرك أن أنيس منصور قد خلق من الاستيقاظ مبكرًا عادة صعبة الكسر، وأن هذه العادة غيرت حياته من إنسان عادي إلى كاتب مبدع ومفكر مدهش وفيلسوف عصري من طراز فريد.
العادة عبادة كما يحلو لكثيرين أن يرددوا، لكن العادة نوعان؛ فعادة حسنة تصنع أسطورتك الشخصية، وتنجح في أعمالك وتحفز من حولك وتخلق هالة من النشاط، وتحلق في سماوات النجاح وإن لم يكن نجاحاً مدوّياً! وعادة سيئة تضغطك وتقلل من تمددك وتعزلك عن محيطك؛ فأنت تنغلق على ذاتك وترفض آراء الآخرين، أو تتحاشى ممارسة أنشطة جديدة، وتقلع عن التفكير خارج خطوط بعينها، وتصبح أسير الرتابة والنمطية والبيروقراطية والروتين القاتل!
يحاول البعض الدندنة على وتر خلق العادات، ويتمادون في التفاؤل لدرجات أقرب إلى المحال؛ فمثلًا تنتشر الكتب عن خلق عادة جديدة في 21 يومًا، واكتساب لغة جديدة في 21 يومًا، وتعديل طريقة حياتك ونمط الغذاء الصحي في 21 يومًا، والبعض ارتأى أن هذه الـ21 يومًا ليست كافية؛ فأضاف إليها بدافع النبل والكرم سبعة أيام، وعليه فإن تغيير حياتك للأفضل يتطلب منك 28 يومًا لا أكثر!
لغز الواحد وعشرين يومًا يحتاج إلى تفسير؛ فهل له علاقة بالقرن الحادي والعشرين؟ أم أن المسألة رجم بالغيب؟ أم أن تفسيرًا منطقيًا يرتبط بالرقم؟ شغلت هذه الفكرة عقل الطبيب النفسي، جيرمي دين، ونقّب حولها ليعرف الدلالة النفسية والعلمية لها، وخرج بمجموعة من النتائج التي ضمَّنها كتابه "صنع العادات وكسر العادات"، وهو كتاب قمين بالمطالعة والمدارسة.
أما سر الـ21 يومًا فقد خرج من كيس جراح التجميل، ماكسويل مالتز، في كتابه علم التحكم النفسي Psycho-Cybernetics المنشور سنة 1960، وفيه أن الأشخاص مبتوري الأطراف احتاجوا إلى 21 يومًا للتكيف مع الصدمة، ثم عمَّم مالتز ملاحظته ليخرج بنتيجة مفادها أن كل تغيير رئيسي في الحياة يحتاج إلى 21 يومًا! ما يعني أن سر الواحد وعشرين يومًا لم يزد عن كونه اجتهاداً شخصياً يفتقر لأيّ سند علمي.
بل إن دراسة حديثة في جامعة لندن نسفت ادعاءات مالتز، وذلك بمتابعة السلوك اليومي لـ96 شخصًا، كانوا يحاولون تحويل هذا السلوك إلى عادة، وانتهى الباحثون إلى أن العادة إما أن تكون عادة سهلة، ويمكن التعود عليها خلال 20 يومًا، أو عادة صعبة كأن تبتسم الزوجة في وجه زوجها صباحًا، أو أن يبادرها هو بضحكة أو يجاملها من دون مناسبة، أو أن يحاول أحد "السناجل" ممارسة الرياضة بانتظام، وفي مثل هذه الحالات قد يحتاج المرء 66 – 84 يومًا.
وهناك عادات أكثر صعوبة كأن يحاول الزوج مغالبة نفسه وأن يقول لزوجته على حين غفلة "بحبك"، وعادات أخرى تصل إلى هذه الدرجة من الصعوبة، وتحتاج في المتوسط إلى 254 يومًا، وكل هذا يدحض - جزئيًا - ما ذهب إليه مالتز.
العادات السهلة أو البسيطة قد تتوافق مع قاعدة 21 يومًا، بينما العادات الصعبة مثل استيقاظ أنيس منصور في الرابعة فجرًا لن تخضع لقالب ماكسويل مالتز، وتؤكد أن أنيس منصور درَّب نفسه طويلًا ليمتلك هذه العادة. قد تجد مقاومة عنيفة في البداية، وتقل المقاومة تدريجيًا وتحل محلها التلقائية؛ فأنت تكتشف أن أحدهم مبتدئ في عالم القيادة، يبدو عليه التوتر والتصنع في أفعاله وردود أفعاله، لكن بعد مدة - طالت أم قصرت - يختفي التصنع وتظهر التلقائية.
والتلقائية من علامات العادة؛ فإنك - غالبًا - لن تسأل نفسك تفسيرًا لما تؤديه بشكلٍ تلقائي، وإن سألت نفسك هذا السؤال فله دلالة مهمة، وتتمثل في احتمال كسر هذه العادة وتغييرها. مع التلقائية يأتي غياب العاطفة، وهذه علامة أخرى من علامات العادة؛ فبمرور الوقت تفقد اللذة العاطفية التي صاحبت المرات الأولى لقيادة السيارة أو للجلوس مع زوجتك أو الفرحة بعملك الجديد.
لم تعد تفرح بهذه الأمور، لكنك ربما تفرح بأشياء أخرى ترتبط بها، كأن تخرج بسيارتك نزهة في مكان مختلف، أو أن تغامر وتشتري لزوجتك شيئًا يفرحها، أو أن تحظى في عملك بمكافأة ولو معنوية. ثمة رابط ثالث في عالم العادة، ويأتي مع التلقائية وفقدان العاطفة، ولا يقل عنهما أهمية ودلالة؛ إنه الملاحظة! يلاحظ الناس من حولك بجلاء تكرار عاداتك، والنمطية التي تتصرف بها، والقالب الذي تصب فيه تحركاته وردود أفعالك، وأنت إذا جلست منفردًا بنفسك ووضعت سيناريو يومك؛ ستجد أنه متشابه إلى حدٍ بعيد، ومتكرر في كثيرٍ من تفاصيله، وهذا ما يؤطر عالم العادة.
قبل أن يجري إيفان بافلوف تجربته المدهشة، لم نكن نعرف العادة أو دائرة خلق العادة، ومعه أدركنا الكثير من تفاصيلها، وكل يومٍ نكتشف شيئًا مدهشًا يعزز ضرورة فهم عاداتنا، ويساعدنا في تحسين جودة حياتنا. كتاب جيرمي دين مدهش وسيأخذ بيدك في أمور كثيرة، ويعد إضافة وليس بديلًا عن كتاب "قوة العادات" للكاتب تشارليز دويج، وعاداتك الحياتية تستحق أن تقرأ الكتابين، وأن تكوِّن لنفسك عادة قرائية تلقائية وثابتة.
حبذا لو تطوِّر لنفسك عادة القراءة كما طور أنيس منصور عادة الاستيقاظ فجرًا للقراءة والكتابة، ولربما تصبح يومًا ما مؤثرًا في محيطك الصغير أو مجتمعك أو عالمنا العربي أو العالم بأسره، وليس في ذلك جنوح أو مبالغة مثل مبالغة ماكسويل مالتز، بل إنها قوةٌ تحققها لك قوة العادة التي تتشربها لتصبح طبعًا من طباع حياتك، وما عُلِّمَ الإنسانُ إلا ليعلما!