العائدون حيث الحلم

09 اغسطس 2015
(بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، الطبعة الأولى 2013)
+ الخط -
عديدة هي الكتب التي تناولت الحكم العماني لشرق أفريقيا ولما عُرف بسلطنة زنجبار التي تناوب على حكمها إثنا عشر سلطانا، أولهم المؤسس السلطان سعيد بن سلطان، وآخرهم السلطان جمشيد بن عبدالله، واستمرت لنحو مائة واثنين وثلاثين عاما. لكن معظم هذه الكتب وثّقت للجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية التي شهدها الوجود العماني في شرق أفريقيا، وعلاقة هذا الوجود بالقوى الدولية المتصارعة في المحيط الهندي في تلك الحقبة، لا سيما بريطانيا العظمى. في المقابل، نادرة هي الكتب التي وثّقت وأرّخت لتفاصيل الحياة اليومية للعمانيين في الجناح الأفريقي من إمبراطوريتهم التي كانت مترامية الأطراف، وليوميات ووقائع سقوط تلك الإمبراطورية وتهاوي ملكهم الذي كان عضودا، ولما تعرضوا له من قتل وسجن وتعذيب وملاحقات. فمنذ صدور السيرة الذاتية لابنة مؤسس الحكم العماني في زنجبار، "الأميرة" سالمة بنت سعيد بن سلطان، تحت عنوان "مذكرات أميرة عربية" حيث صدرت طبعتها الأولى باللغة الألمانية في بون عام 1886، والتي وثقت لحياة القصر السلطاني وتفاصيل حياة السلاطين وأبنائهم وبناتهم وأيضا لمغامرتها العاطفية المدهشة وغرامها ببحار ألماني وهربها معه إلى بون، لم يصدر كتاب سيرة ذاتية يوثق للإنساني والعادي حتى العام 2013 عندما أقدمت امرأة عُمانية أخرى على تدوين سيرتها وسيرة عائلتها، في كتاب سمّته "العائدون حيث الحلم".

ولدت مؤلفة الكتاب حبيبة علي الهنائي في منطقة مكانجوني بالجزيرة الخضراء، سنة ١٩٦٥. وهي تنتمي إلى الجيل الثالث من المهاجرين العمانيين إلى شرق أفريقيا. وكما تروي ولدتْ لـ"أسرة عربية استقرت في جزيرة "بيمبا" بشرق أفريقيا أو مثلما لقبها العمانيون بالجزيرة الخضراء".

لكن حبيبة الهنائي، التي مثلت الجذور العربية العمانية قضية جوهرية في سيرتها الذاتية وسيرة عائلتها في هذا الكتاب، لم تُولد في ظل الحكم العماني لزنجبار والجزيرة الخضراء، فحين رأت النور كان قد مضى عام كامل على غروب شمس الإمبراطورية العمانية، وكان العمانيون قد تحولوا من سادة القوم إلى قابعين في السجون أو ملاحقين هاربين.

في هذه الكتاب تنثال الذكريات على لسان الكاتبة ولكن عبر روايات متعددة ومتقاطعة لجدها وأمها وأبيها، تبدأ بوصف الحياة والطبيعة والثقافة والمجتمع في زنجبار حيث الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ورغد الحياة ويسر المعاش والوئام والأخوّة والتسامح الذي جمع سكان الجزيرة، عربا وأفارقة وهنودا وسواهم.

وتشير الكاتبة إلى أن الأفارقة ميزوا المهاجرين العمانيين بأن أطلقوا عليهم لقب "الوامانجا" وهو مخصص فقط للذين ولدوا في عُمان. أما أبناؤهم الذين ولدوا في زنجبار فيُسمّون أنفسهم عربا. وكانت "العروبة" بالنسبة لهم اميتازا حتى لدى الجيل الذي "تفرنج" في لباسه وعاداته بحكم احتكاكه بالإنجليز من جهة وبالأفارقة من جهة أخرى.

وتتحدث عن تأثير الثقافة العربية "الحديثة" في أهل زنجبار من العرب، خصوصا عبر مصر، التي ربطتها بالسلاطين العمانيين علاقات وثيقة، "فمنذ بدايات القرن الماضي بدأ سكان زنجبار تعلقهم بلبس الطربوش، وشمل هذا سلاطين زنجبار الذين ظهروا في بعض صورهم الشخصية والرسمية يعتمرون الطربوش مثل السلطان خليفة بن حارب بن ثويني".

لكن تلك الحياة الهادئة الهانئة الرغيدة لم تستمر ولم يستمر التعايش والتآخي بين العمانيين والأفارقة، ففي آوائل الستينات من القرن العشرين "بدأت البوادر المبطنة لخطط الإنجليز الدنيئة... فأصبح كل ما بناه الأجداد يتهاوى تدريجيا" حتى حدوث ما تصفه الكاتبة بـ"يوم النكبة" يوم الانقلاب العسكري الذي قاده "كارومي" ضد السلطان "جمشيد بن عبدالله".

وتصف الكاتبة المعاناة التي عاشها العمانيون بعد الانقلاب ورحيل آخر سلاطين زنجبار إلى منفاه البريطاني. لقد انتهى إذاً الحكم العماني في شرق أفريقيا لكن معاناة السكان العرب من أصول عُمانية، وبينهم مؤلفة الكتاب وأسرتها وعشرات الألوف، ستستمر لسنوات مقبلة، إذ تعرضوا للسجن والتعذيب والملاحقات، وكان من بين هؤلاء الذين قضوا تحت التعذيب، في سجون كارومي جد المؤلفة "خلفان الخروصي". أما والدها ووالدتها وأخوتها وهي فكان عليهم الهرب عبر البحر إلى مدينة "تانجا" ومنها إلى "دار السلام"، ثم التخطيط للسفر إلى عُمان، خصوصا بعد ورود أنباء تولي سلطان جديد الحكم في الوطن الأم، هو "السلطان قابوس".

"العائدون إلى حيث الحلم" رحلة ذكريات طفلة عُمانية ستكبر عبر الآلام والأحلام، ذكريات يختلط فيها الواقعي بالمتخيل على اعتبار أن كثيرا مما روته من حكايات وقصص، بعضه حدث قبل ولادتها، وبعضه في سنوات طفولتها الأولى، لكن، في الحالتين، هو توثيق بالغ الأهمية لمرحلة من حياة الإمبراطورية العمانية التي غربت شمسها في شرق أفريقيا.

* كاتب وصحافي عُماني
المساهمون