الضعف... حقيقة أقرها القرآن
جاء رجل معجباً بحفظه القرآن إلى أحد الصالحين الحكماء، فرد عليه الأخير: ما بالك مزهواً بفعلك، فلقد زادت نسخة من نسخ القرآن لا غير. وعلى نفس المنوال أشار الكثير من الصحابة إلى منهجية تعاملهم مع القرآن، إذ كانوا يحفظون منه عشر آيات يستوعبونها جيداً، قبل الانتقال إلى الآيات الأخرى.
تحمل هذه الإشارات التاريخية أكثر من دلالة بخصوص العلاقة الحقيقية الواجب توفرها بين الفرد المسلم والقرآن كأكبر وأقدس مصدر للدين الإسلامي باعتباره هوية وشِرعة المسلمين: بحيث إن القرآن ليس كتاباً للذاكرة والترديد "الببغائي" البعيد عن ملامسة وجدان المرء، دون أثر واقعي في مناحي الحياة اليومية التي يعيشها. بل إن قيمة القرآن في تطبيقه. وهي الغاية التي تُدرك عبر فهم عميق واستيعاب روحه بدل قشرته، مما يؤدي بالضرورة إلى تطبيقه بشكل سليم، كل هذا في أفق حدوث التماهي التام بين قناعات الناس بمبادئه وأفعالهم. وهي حالة حدثت فعلاً تاريخياً، عبرت عنها عائشة زوجة الرسول (ص) في صورة مجازية نقية لما سئلت عن خلق الرسول (ص) فأجابت: "كان خلقه القرآن".
يستوجب بلوغ هذا التبني العملي والراقي للقرآن تجاوز اختزاله في أحكام تشريعية جافة، تقسم الدين لدى الإنسان إلى حلال و حرام، جائز ومندوب....، في سبيل اتخاذه كتاباً للتأمل في
القضايا الإنسانية العميقة، بشكل يسمح بالكشف عن جوانب مهملة في تاريخ الدين تعيد إحياء مكانة الرسالة السماوية الإسلامية تحت غطاء قد نسميه فلسفة الإسلام: بمعنى استثمار آياته في الكشف عن بعض الحالات النفسية والوضعيات الاجتماعية أو القضايا المعيشية التي يعترف بها القرآن، كونها جزءاً من بنية الطبيعة الإنسانية، حتى السلبية منها، ما يجعل مشروعية الدور الاستيعابي، الوقائي والعلاجي للقرآن أمراً ملحاً وذا أولوية.
من بين تلك الحالات الوجودية التي ينبغي التركيز عليها في تفسير القرآن نجد وضعية الضعف والعجز والحاجة، باعتبارها مكونات جوهرية للطبيعية البشرية وليست نقائص أو عيوبا تشكك في قيمتها. بل العكس، يبدو الاعتراف بحضورها والاعتزاز بها شرطاً لازماً للإيمان بقدرة الله المطلقة واللامتناهية على انتشال الإنسان. إذ الأشياء بأضدادها تُعرف، فلا حديث عن صفات الرحمة والقدرة الإلهية وحتى الصبر الإنساني نفسه، ما لم نسلم بأن الضعف جزء صميمي من تكوين الذات الإنسانية، تشهد على ذلك حقائق تاريخية شتى بدءاً من الحماية التي أحاطها الله بالرسول (ص) وأبو بكر في غار حراء، وما تحمله هذه الحالة من إحالة إلى حاجة المرء - حتى لو كان نبياً - لشخص يهون عليه أهوال الرسالة وهو ما جسده أبو بكر في هذه الحالة وخديجة يوم نزل على النبي الوحي. ولا ننسى التدخل الرباني في معركة حنين لنصرة المسلمين المعتزين بقوتهم حد ملامسة الغرور. إنه حدث آخر إلى جانب الأول، تضمنا رسالة واضحة المضمون بأن مفاتيح التوفيق الأخير تبقى رهينة بالله كلي الإرادة. ما دام الضعف لازما للمسلمين حتى وهم في أوج اجتهادهم. ويا للمفارقة فقوة الإنسان تكمن في عجزه أو بالأحرى في وعيه بهذا الضعف.
نجد التأصيل القرآني لهذه القناعات في كلام الله. فالقرآن ذاته حافل بإشارات عن حقيقة العجز البشري النفسي والعقلي والمادي والاجتماعي ليس كعوامل هدم، وإنما كوعد بالنصر والتمكين لاستثمار دروس تاريخية كما في هذه الآية، حيث يقول الله سبحانه:
"....إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ"، أو كوصف نفسي دقيق للضعفاء الذين يملكون الرغبة في الإنفاق وخدمة الدين، لكنهم لا يملكون مقوماته. وهي مرتبة مشرفة من الرأفة والرحمة المنبعثة من تعاليم الدين. ما يعني رد اعتبار كبير الأثر ما دامت راية التدين لا تستثني أحداً، كون الأعمال مرتبطة بالنيات أولاً وأخيراً. كما في قوله تعالى: "وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ". وهي آية تصور جمالية موقف المؤمنين المتطلعين لفداء عقائدهم بالغالي والنفيس. حتى التضحية والجهاد والاجتهاد كلمات في هذا السياق لا معنى لها دون الإقرار الصريح بعجز الإنسان وتناهيه أما الخطوب الشداد أولاً، ثم، في مواجهة تضاريس الحياة المنعرجة وقلاقلها، بما تحمله من حاجة ملحة لرب مدبر، يحتضن هذا العجز والوهن الإنسانيين.
فحين تتمنع الأماني، تستغلق بوابات الفرج، تُسد في وجه القلوب الهاربة إلى الخلاص، وتصدأ أقفالها، آنئذ تنسل من الغيب غيمة ربانية بخفة زئبقية تأتيك. لتنشر من حواليك تباشير النجاح، مصحوبة بترانيم الفلاح. حاملة بين كفيها أكاليل النصر الإلهي بعدما يعوزك ويعز عليك الإمداد الآدمي.