الضحية تُعفي المعتدي من واجب التعويض!

09 اغسطس 2014

اتفاقية تعويضات جديدة من ألمانيا لناجين من المحرقة(نوفمبر/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -


أبدى المقاومون في قطاع غزة، ومعهم المسعفون، وما تيسر من جمعيات أهلية، صموداً هائلاً يثير الفخر والتبجيل، وخصوصاً في المواجهات مع قوات الاحتلال التي اجتاحت القطاع بصورة موضعية، هنا وهناك، وبعد طول تردد من المعتدي. وثبت في هذه الحرب أن الإسرائيليين باتوا شبه عاجزين عن خوض حرب برية، وقد تمظهرت العقيدة العسكرية الإسرائيلية، مجدداً، باعتبارها تقوم على القصف الجوي من علو، وإطلاق الصواريخ من بُعد.

في هذه الأثناء، وخلال حرب الأيام الخمسة والعشرين، لحق بالقطاع دمار مروع، وقضى نتيجة الغارات والقصف عدد يناهز الـ 1850 شهيداً، جُلّهم مدنيون، إلى زهاء ستة آلاف من المصابين. ومن المآسي شديدة الإيلام، أن أبناء القطاع صادفوا صعوبة جمة في دفن ضحاياهم، نتيجة القصف المتواصل، ولضيق المساحات المتاحة لدفن أحبائهم. بعد هذه الحرب التي سمّاها المحتلون "الجرف الصامد"، وأطلق عليها المقاومون اسم "العصف المأكول"، ومع وضع مطالب منطقية من المقاومة والوفد الفلسطيني الموحد إلى مفاوضات القاهرة، فإن المرء لم يفاجأ بأن هذه المطالب لا تشمل دفع تعويضات عن الأرواح التي أزهقت، وعمن أصيبوا بجراح بالغة، أو لحقت بهم عاهات جسدية، وعن البُنى والأملاك والخدمات التي تقوضت.

لم يسبق للفلسطينيين أن طالبوا عدوّهم، بصورة مؤسسية، بمثل هذا الاستحقاق القانوني. ربما لأنه من المعيب المطالبة بثمن للدم! على خلاف عدوّهم الذي كرس صورته ممثلاً لـ"الشعب اليهودي"، ولما يعتبرها الجاليات اليهودية في العالم، بمطالبته ألمانيا الاتحادية بدفع تعويضات لتل أبيب عن المحرقة النازية، في اتفاقية تم التوقيع عليها بين الطرفين عام 1952، عرفت باتفاقية لوكسمبرغ. وبعد نحو سبع سنوات فقط على هزيمة ألمانيا في الحرب الكونية الثانية.

أهمية التعويض، هنا، لا تقتصر على الجانب الألماني، فهناك جوانب أخلاقية وقانونية وسياسية. بالمعنى الأخلاقي، تتكرس صورة الضحية المعتدى عليها. وفي الجانب القانوني، يتكرس الحق في التعويض في حال تعرض الطرف المعتدى عليه لاحقاً لأي اعتداء. وفي البُعد السياسي، باتت إسرائيل تمثل اليهود، على الرغم من انتساب هؤلاء إلى شعوب ومجتمعات شتى، على الرغم من أن الدولة الصهيونية لم تكن قائمة إبّان وقوع المحرقة. وقد سارع الاتحاد الصهيوني (الوكالة اليهودية) إلى المطالبة بدفع هذه التعويضات في العام 1945، بعد شهور على استسلام ألمانيا، وتقويض مظاهر الحياة والعمران فيها. وبهذا، فإن المطالبة تمت في البدء من طرف مؤسسة أو وكالة، وليس من دولة.

الفاعل السياسي الفلسطيني لا يطلب تعويضات من المعتدي الذي يكرر اعتداءاته، ويمنح نفسه بهذا الصدد حقاً مفتوحاً. حدث أن طالبت وكالة الغوث لتشغيل اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، أونروا، بمثل ذلك عن منشآت لها في الضفة الغربية وقطاع غزة.  فيما يسود الاعتقاد بأن طلب تعويضات يقترن بإسدال الستار على القضية، علماً أن الحديث، هنا، يجري بشأن اعتداءات بعينها، كالحرب الجارية على غزة. الامتناع عن هذه المطالبة، في وقت يمتنع فيه مجلس الأمن عن الإدانة، يعني إعفاء المعتدي من أية تبعات، بما يشجعه، وقد شجعه، على ارتكاب مزيد منها. يعرف المحتلون الإسرائيليون ظروف غزة المختنقة بساكنيها والمحاصرة، ولذلك، يضعون ضمن بنك أهدافهم المضمر دفع أبناء القطاع للعودة إلى الوراء، قريباً من نقطة الصفر. والإيحاء لهم بأن نضالهم عبثي، كحال سيزيف حامل الصخرة. ولم يكتم رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو، هدفه بإعادة غزة الى القرون الوسطى. وهي عبارة أميركية قيلت في أثناء غزو العراق. مع كل هذا الدمار، وهذه الأنقاض، فإن المعتدي ليس مطالباً بشيء، نرغب فقط في هزيمته عسكرياً وسياسياً، ونعفّ عن مطالبات واجبة بالتعويض، لأنها قد تحمل شُبهات ما!

نستذكر، هنا، أن الكويت نالت تعويضات مستحقة من العراق، قاربت 30 مليار دولار، وشملت التعويضات المقيمين في ذلك البلد، وذلك عن تبعات اجتياح نظام صدام حسين الكويت في 2 أغسطس/آب 1990. للتعويضات، بالطبع، تكييفها القانوني، وغالباً ما تتم بين دول، ولنا أن تستذكر أن اتفاقية أوسلو (إعلان المبادئ بين منظمة التحرير وإسرائيل) 1993 مرعية دولياً، وثمة ما لا يقل عن مئة دولة تعترف بدولة فلسطين، وهذه أصبحت عضواً في الأمم المتحدة بصفة مراقب. وعليه، فإن المطالبات بالتعويض حق لطرفٍ معترف به دولياً، فضلاً عن مقاصد القانون الإنساني الدولي الذي يوجب تعويض الضحايا والطرف المعتدى عليه. وإذا كان مبدأ التعويض هو من مشتملات حل عادل للصراع، وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 181 الصادر عام 1949، فذلك يعني أن معالجة تداعيات هذا الصراع وتطوراته لن تكون في منأى عن الأخذ بهذا المبدأ.

في الوعي السياسي الفلسطيني "العامي"، أو السائد، فإن كلمة تعويضات ذات سمعة سيئة! فهي تقترن بسيناريوهات غامضة موضوعة في الأدراج، يُمكن سحبها وتطبيقها في أي وقت، لتصفية القضية، وتعويض أصحابها بحفنة من مال، من دون أن تكون الدولة الصهيونية شريكة بالدفع! غير أن الحديث، هنا، لا يجري بشأن حل نهائي، أو تسوية شاملة، ولا عن حل جزئي أو مرحلي، بل يتعلق بالتعامل مع تداعيات الصراع المستمر، ممثلاً بالاعتداءات الدورية المتعاقبة التي يتعرض لها الكيان الفلسطيني من طرف تل أبيب، والتي باتت تتخذ طابع حرب تدميرية شاملة بالأسلحة الثقيلة على مدن ومنشآت مدنية، وعلى مدنيين. ليس من الحصافة في شيء إعفاء المعتدي، مرة تلو المرة، من أداء تعويضات، حتى غدا هذا الإعفاء من "تقاليد الصراع"، وامتيازَ أمرٍ واقع لصالح الطرف المعتدي.