ربما، تلك المشاهد كُتب لها أن تنتشر أمام العالم والسوريين، لكن الحرب التي شنّها نظام الأسد على الشعب السوري، مليئة بتفاصيل شعورية صغيرة، تترك أثرًا وألمًا كبيرين في نفوس البشر.
تفاصيل الحرب الشعورية، عادة لا يلاحظها إلّا من عاشها، فمثلاً مشاهدة أحد السوريين - وهي حالة منتشرة تختلف درجات حدّتها - في مشهد غريب من نوعه، يبدأ بموجة ضحك حقيقية، وتُقطع فجأة بجمود كامل في تفاصيل الوجه بسبب إدراكه المفاجئ والمتكرّر لواقعه المرير.
هنا بالتحديد تتلقى عضلات الوجه بشكل مفاجئ أمراً لا إراديًا بالعودة إلى شكلها الطبيعي، وبطبيعة الحال، تقلّص العضلات واسترخاؤها بشكل مفاجئ، يسبّب ألمًا يجمّد ويصلّب ملامح وتفاصيل الوجه، ليصبح هذا الألم هو الشعور المرافق لحياة بعض السوريين، هو ليس ألمًا كذلك الناتج عن سقوط البراميل وصواريخ الطائرات، هو ألمٌ فقط يُخرج صاحبه من لحظة الضحك التي خطفها، إلى لحظة جمود غريبة، تُولّد لديه ألمًا جسديًا ونفسيًا لن يدرك أحد قسوته إلًا بعد تجربته.
حالات أخرى، لم يعشها إلا الذي جرّب الحياة المنكوبة الخالية من الأمل والمشبعة بالألم، كحالة ضمور المشاعر مثلًا، في هذه الحالة لا يستطيع الإنسان الشعور بالغضب الحقيقي أو الحزن، نتيجة شعوره أن هذه المشاعر وغيرها فقدت المعنى الحقيقي لها، ولن يشعر بالأمان الذي طلقه، فضمور هذه المشاعر أمر كافٍ لتوليد التوتر والتخبط، والذي من شأنه أن يجعل كل خلية عضوية في الجسد متشنجة وعلى أهبة الاستعداد الدائم للموت السريري، ذلك التوتر لا يأتي إلّا في حالة الفوضى العارمة، والذي بدوره يعطي الكائن الحي شكليًا، جمودًا وغرابة وعزلة ورغبة عارمة بالموت، وفي الوقت نفسه، خوفاً كبيراً من الموت، فالتوتر الدائم والمتعاظم يجعل مالكه متناقضًا كتلك الحرب التي تدور من حوله.
ضمور المشاعر ليس الوحيد الذي يعاني منه من يعيش أجواء الحرب، بل اختلاطها أيضًا يسبب لبعض مالكي تلك التجربة، نقطة مبهمة ظالمة في حياته وشخصيته، فأن يتولد عند الإنسان وخلال فترات قصيرة، مشاعر جديدة مختلطة مبهمة، كافية لإحساسه بالضياع وحتى عدم الثقة بنفسه، بقراراته، بمشاعره ذاتها، فتطغى أفكار الشك على ذلك الكائن، ويتحوّل بعدها العقل إلى منطقة استراتيجية مشتعلة بالحرب المتكافئة، حيث يضمن ذلك التكافؤ استمرار الحرب، ويساعدها على نهش العقل والجسد والقلب، ليُفاجأ معايش الحرب بشخصيته الجديدة القائمة على الضياع بالدرجة الأولى.
هذه التفاصيل الشعورية وغيرها التي تعدّ بالمئات، تضاف للحظات الجنون التي تتغلغل في عقول السوريين عندما يدرك الموت فجأة أحد أحبتهم، أو عندما يساقون قسرًا من داخل بيتهم إلى منفى آخر، لا يهم هنا إن كان ذلك المنفى يقع داخل أو خارج حدود وطنهم، فوطنهم تقلص ليصبح بحجم ارتفاع وعرض منزلهم، الذي تبخر أمام أعينهم نتيجة صاروخ ارتجاجي، أو نوع آخر من أنواع التدمير، أما ذلك المنزل الذي نجا من الموت، تُرك وحيدًا للمجهول، كما تُركوا هم، وكما تَركوا حياتهم وعقولهم في تخبّطها وتناقضها الهستيري.