04 نوفمبر 2024
الصين.. تدخُّلٌ متأخِّر لقطف ثمارٍ مبكِّرة
يبدو أن الصين قد أدركت، متأخرةً، دور التدخُّل العسكري في البعدين الجيوسياسي والاقتصادي المُتعلِّقَين بمسار الحرب في سورية، وبمرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار، حتى ترسل قواتها إلى هذا البلد، بعدما سبقتها إليه دول أخرى، أكسبها تدخُّلها قوةً. ويبدو غريباً عدم مبادرة الصين إلى المشاركة العسكرية المبكّرة في الحرب في سورية، على الرغم مما لمسته من تغير حال روسيا بعد تدخُّلها في سورية الذي أعطاها الأفضلية في المشروعات المستقبلية، وقيَّض لها القبض على قسم من مواردها الطبيعية، وهو ما تمارسه الصين في غير بلد، وأحجمت عنه في سورية، ما يستدعي التساؤل عن أسباب ذلك الإحجام، ومن ثم هذا الإقدام.
الآن، وحيث إن سيناريوهات إنهاء الحرب في سورية كثرت، وبات الجميع مدركين أن الحل، أو التسوية السياسية، هي الوحيدة القادرة على إنهاء النزاع فيها، وحديث روسيا عن توقفٍ وشيكٍ للعمليات العسكرية الكبيرة، مترافق مع دفعها العملية السياسية إلى الواجهة بقوة، عبر جولات المحادثات في أستانة وسوتشي بين النظام والمعارضة، تقرِّر الصين إرسال قواتها للتمركز والمشاركة في الحرب. وربما لهذه الأسباب احتاجت الصين إلى مبرّرات، تختلف عن التي ساقتها روسيا وإيران والولايات المتحدة الأميركية حين تدخَّلوا في سورية.
أما مبرّرها، محاربة الجهاديين الصينيين في صفوف تنظيم داعش، الذي يذكِّر بالحجج المبكّرة التي ساقها حزب الله لتبرير تدخُّله في سورية، وكانت حماية المراقد الدينية والعتبات المقدسة، فيبدو واهياً إذا علمنا أن غيابها العسكري، على الرغم من حضورها الدبلوماسي وتوفرها على استراتيجية خاصة للمنطقة، لم يؤثر على حظوظها في حصةٍ معتبرة من كعكة إعادة الإعمار. وهذا ما أكده بشار الأسد حين قال، في مارس/ آذار الماضي، إن الأولوية في مشاريع إعادة الإعمار، بعد انتهاء الحرب، ستكون لروسيا وإيران والصين. كما أكد على دور الصين أكثر من مصدر في الحكومة السورية، ولا يخلو أي تصريح من تصريحات المسؤولين السوريين، بشأن مرحلة إعادة الإعمار، من ذكر هذا الدور، بالتوازي مع دور روسيا وإيران.
لطالما اعتمدت عقيدة الصين للتدخُّل في الدول على استراتيجية القوة الناعمة، خصوصاً في أفريقيا، ولم يسجَّل لها استخدام القوة أو التلويح باستخدامها من عقود. كما أنها طوّرت استراتيجيةً وضعت فيها رؤيتها حول دورها في النظام العالمي، عرفت بـ "مشروع طريق الحرير الجديد" الذي ظهر، بدايةً، مشروعاً اقتصادياً للصين، لكن القادة الصينيين أردفوا أنه يعدُّ بديلاً في مجال التنمية الاقتصادية لكل الدول، ومن ضمنها الدول العربية. وحيث إنها استبعدت الأمن من هذا المشروع، كون الولايات المتحدة والدول الأوروبية يعدّونه أولويةً لاستراتيجياتهم في العالم، جاءت الأنباء عن إرسال الصين قواتٍ من النخبة للمشاركة في الحرب في سورية، لتضرب أحد أسس تلك الرؤية، خصوصاً أن محللين ردّوا هذا التدخُّل إلى رغبتها فرض استقرار في المنطقة، تحتاج له الصين وتعتبره ضرورياً، لأن هذه المنطقة مصدر الطاقة الأساسي الذي يمد الصين بحاجاتها من النفط.
من الممكن أن القيادة الصينية رأت ما تحقق لروسيا وإيران، بعد تدخُّلهما العسكري في سورية، من قوةٍ وبروزٍ على الصعيدين الإقليمي والدولي، وإمكانية انعكاس ذلك في رسم ملامح مصالح استراتيجية في المنطقة برمتها. فبالنسبة لروسيا، زاد تدخُّلها العسكري من نفوذها في المنطقة، وكرَّس اعتقاد قادتها أنها قوة دولية، عليها البحث عن موطئ قدم في المنطقة العربية، وعدم الاكتفاء بطرح أوراق قوتها في ملعبها التقليدي، القرم وشرق آسيا ودول في شرقي أوروبا. واستفادت روسيا من تقبل الإسرائيليين وجودها في سورية، وعدم ممانعتهم الانطلاق منها إلى دولٍ أخرى، مصر والعراق والسودان، لإقامة تحالفات وقواعد عسكرية، فالإسرائيليون يرون في انتهازية سياستها، خصوصاً علاقاتها الطيبة مع الأطراف المتصارعة، فرصةً للتعويض عن المبدئية التي يرونها في السياسة الأميركية والأوروبية التي تضع نصب عينيها قضايا حقوق الإنسان، وهو ما يعتبرونه يخفف من عدوانيتهم تجاه شعوب المنطقة. كما أن قلق روسيا جرّاء الإرهاب في المنطقة، ومواقفها تجاه ثورات الربيع العربي، والمحبِّذ للإصلاحات عن طريق الوسائل الدستورية، لا الثورات، قرَّبها من قادة المنطقة.
ربما يكون التدخُّل الصيني العسكري في سورية بداية تغيُّر استراتيجية القوة الناعمة الصينية، بهدف ضمان قطف الثمار. لكن، وانطلاقاً من المثل "العصفور المبكر هو من يصطاد الدودة"، هل يتمكّن الصينيون من جني ثمار مجدية من تدخُّلهم الأخير؟ يمكن أن يكون تأخر تدخُّلهم عاملاً عكسياً، بسبب ما يجري الحديث عنه من امتيازاتٍ أكثر ربحية، جناها الروس في مجال النفط والغاز والآليات والمعدات الهندسية والاستشارات الفنية، والإيرانيون في مجال الكهرباء
إن كان التدخُّل العسكري يهدف إلى زيادة حصة الصين في كعكة إعادة الأعمار، فذلك لا ينفي أن يكون سبيلها إلى زيادة نفوذها في سورية، ومنها في بقية الدول العربية، على غرار روسيا وإيران، خصوصاً بعد الانكفاء الأميركي عن المنطقة. ويبقى الخوف أن يكون الثمن الذي يدفعه الشعب السوري هو اندفاعة جديدة في الصراع في مناطق محدّدة، تحتاج لها القوات الصينية لتثبيت وجودها. وحيث يجري الحديث عن تركز الجهاديين الصينيين في غوطة دمشق، فإن ما ينتظر هذه المنطقة لن يكون أفضل مما لاقته مناطق أخرى، على الرغم من شمولها في اتفاقية مناطق خفض التصعيد. والمزيد من الدماء سيكون بديلاً عن تكريس التهدئة، وهو فصلٌ لا يرجو السوريون أن يضاف إلى بقية فصول مأساتهم.