الصلاة خلف علي أكمل والطعام عند معاوية أجمل!

13 مارس 2019
+ الخط -
هل كان يمكن للخليفة علي بن أبي طالب أن يخاصم "رومانسيته الثورية" ويكون أكثر واقعية وأقل تشدداً في خلافه مع معاوية بن أبي سفيان، فيقبل شروط معاوية التي وضعها لتحقيق القصاص من قتلة الخليفة عثمان بن عفان ليفوت عليه فرصة منازعته على الخلافة؟

هو سؤال مشروع قطعاً، ككل الأسئلة التي تثور في ذهنك وأنت تقرأ صفحات كتاب الفتنة التي لم تنم أبداً، لكن أي إجابة عليه يجب ألا تنسى أن القراءة المتمعنة في شروط معاوية المتشددة التي طرحها على خصمه علي، ستقودك إلى إدراك أن تلك الشروط لم تكن هادفة إلى القصاص فعلياً من قتلة عثمان، فقد كان قميص عثمان الملوث بالدماء طريق معاوية الأفضل إلى السلطة، بدليل أنه حين انتصر على خصومه واستتب له أمر السلطة ترك دم عثمان ولم يعد يطالب به أحداً من قاتليه، وتجاهل مطالب بعض أنصاره بأن يوفي تعهداته بالأخذ بثأر عثمان، وحين ذكرته ابنة عثمان بن عفان بأنه قام بتفجير الحرب مع علي بن أبي طالب بسبب دم أبيها وطالبته بأن يأخذ بثأر أبيها، تجاهل منطقها الحاسم وعتابها المرير، وقرر أن يطلب منها إدراك اللحظة الفارقة، ولذلك خاطبها بلغة قاطعة حافلة بالتخويف مما يمكن أن يصير إليه مصيرها إن هي قررت أن تقف ضده على الملأ، وهو ما يمكن أن تقرأه بوضوح في كلماته التي قال فيها: "يا ابنة أخي إن الناس أعطونا طاعة وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهم حِلماً تحته غضب، وأظهروا لنا ذلاً تحته حقد، ومع كل إنسان سيفه وهو يرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري أعلينا تكون أم لنا، ولأن تكوني ابنة عم أمير المؤمنين خير من أن تكوني امرأة من عَرض الناس"، مع أن هذا المنطق الواقعي هو نفس المنطق الذي كان يقف ضده بضراوة في أيام خلافة علي، الذي عبّر في أكثر من مناسبة أنه كان يخشى من أن يؤدي الوقوف ضد قتلة عثمان إلى مزيد من اضطراب الأمور في الدولة الإسلامية.

لم يكن علي بن أبي طالب غافلاً عما يخطط له معاوية بن أبي سفيان، فقد كان يعلم أن "وراء الأكَمَة ما وراءها"، وأن غضبة معاوية ليست خالية من الدوافع والطموحات الشخصية، وهو ما يمكن أن نتبينه في رسالته التي أرسلها إلى معاوية مذكراً له بدوره في توريط عثمان في ما وقع من أزمات وفتن، قائلاً له: "ثم ذكرتَ ما كان من أمري وأمر عثمان، فلك أن تُجاب عن هذه لرحمك منه، فأينا أعدى له وأهدى إلى مقاتله: أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفه ـ يعني بذلك نفسه ـ أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه ـ يعني معاوية ـ كلا والله، لقد علم الله المعوَّقين منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً"، وفي رسالة أخرى يقول علي لمعاوية: "وأمّا ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك، فإني نظرت في هذا الأمر، فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقائك، لتعرفنهم عن قليل يطلبونك، لا يكلفوك طلبهم في بر ولا بحر ولا جبل ولا سهل، إلا أنه طلب يسؤوك وجدانه وزور لا يسرك لقيانه، والسلام على أهله".


كان علي يدرك أن دم عثمان كان مجرد شماعة لإثارة الفتنة، وتعبيراً عن نزاع بني أمية التاريخي مع بني هاشم، وعن طموح قريش لعودة السلطة إلى يدها، بعد أن نزعتها الرسالة المحمدية من أيديها، ولذلك لم يكن علي ليهادن أبداً في صراعه مع معاوية، فقد كان يعلم أن سادة قريش قد قرروا شن الحرب عليه دون هوادة، وأن معاوية لم يكن ليتراجع أو يلجأ إلى التهدئة حتى لو هادنه علي، ومن أدلة ذلك أن علياً كتب مرة إلى أخيه عقيل الذي كان يخالفه في موقفه قائلاً: "...دَع عنك قريشاً وشركاءهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق، فإن قريشاً قد أجمعت على حرب أخيك إجماعها على حرب رسول الله"، وكما يروي الشريف الرضي فإن علياً خطب مرة فقال: "اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قد قطعوا رحمي وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري".

في كتابه (مسلمون ثوار) يرى الدكتور محمد عمارة أن أول قرار ثوري قام علي بن أبي طالب بإعلانه بعد توليه الخلافة، هو خلعه لجميع ولاة عثمان الذين كانوا من أبرز رموز قريش، مع أنه كان يمكن أن يلجأ للهدنة معهم، لكنه كان يراهم سبباً في وقوع الفتنة، ويعرف أن بقاءهم في مناصبهم لن يؤدي إلى استقرار الأوضاع، ليقول على الملأ في مناسبة أخرى: "مالي ولقريش، أما والله لقد قتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين.. والله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فليضج ضجيجها"، وهو ما يضعه المفكر العراقي علي الوردي في كتابه الجميل (وعّاظ السلاطين) في سياقه، حين يقول إن جوهر صراع علي مع معاوية، كان أن علياً ومن ورائه الأغراب والموالي وعامة المسلمين، كانوا يرون أمر الله في اتباع سنة العدل والمساواة بين الناس، لكن إعلان ذلك الموقف لم يكن ليجمع الأثرياء وأصحاب النفوذ مع علي، لذلك تخاذلوا عن علي، لأنه كان "لا يفضل شريفاً على مشروف ولا عربياً على عجمي، ولا يصانع الرؤساء وأمراء القبائل فكان هذا أأكد الأسباب في تقاعد العرب عنه" طبقاً لما يرويه المدائني عن فضيل بن الجعد، في رواية أخرى نرى كيف مشى إلى علي طائفة من أصحابه وقالوا له: "يا أمير المؤمنين أعطِ هذه الأموال، وفضِّل هؤلاء الأشراف من العرب وقريش على الموالي والعجم، واستمل من تخاف خلافه من الناس" ـ بعد أن رأوا ما كان معاوية يصنعه بأمواله لاستمالة قلوب الناس ـ فقال لهم غاضباً: "أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور". ـ للاستزادة انظر ما كتبه أحمد أمين في كتابه البديع (ضحى الإسلام).

في ظل هذه الأجواء التي تراجعت فيها تعاليم الدين، وعلا صوت العصبية والنعرات التي حاربها الإسلام من قبل، وأصبحت اللغة الأقوى هي لغة المال والمناورات السياسية، جاءت مقولة رجل من عامة الناس لتجسد ذلك العصر ببراعة وتلخص موقف "الشعب" بامتياز: "الصلاة خلف علي أتم والطعام عند معاوية أدسم والقعود على الجبل أسلم"، لكن غالبية الناس في ذلك العصر لم يكونوا يشاركون صاحب المقولة في رأيه، وكانوا يفضلون الطعام الدسم على القعود فوق الجبل، ولذلك انتصر معاوية على علي الذي لم يشفع له انحيازه الدائم والمعلن للفقراء في مواقف عديدة من بينها ـ كما يروي القاسم بن سلام في كتاب الأموال ـ حين قال على الملأ: "إن الله فرض في أموال الأغنياء ما يكفي الفقراء، فإن جاعوا أو عروا فيمنع الأغنياء وحق على الله أن يحاسبهم ويعذبهم"، وحين ذهب إليه أخوه عقيل يطلب منه أن يعطيه من بيت المال، قال له علي: "لتذهب إلى حوانيت السوق وتكسر أقفالها لتأخذ ما فيها"، فعاتبه عقيل: "تريد أن تتخذني سارقاً"، فأجابه علي: "وأنت تريدني أن تتخذني سارقاً.. أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم"، وكانت نتيجة هذه المواجهة أن ذهب عقيل إلى معاوية في الشام ليؤازره مفسراً موقفه بقولته الشهيرة "إن أخي خير لي في ديني ومعاوية خير لي في دنياي".

ولأن علياً دفع حياته ثمناً لانحيازه للفقراء والمستضعفين، فقد كانت النتيجة أن أصبح ـ كما يلاحظ علي الوردي وأحمد أمين ـ الرجل الوحيد في تاريخ الإسلام الذي اشتط البعض فآمنوا بألوهيته مغالاة منهم في حبه، مع أن أحداً لم يؤله حتى الرسول عليه الصلاة والسلام، ومع أن علياً نفسه كان يؤكد على الدوام أنه عبد من عبيد الله مسلم له ومخلص لتعاليمه، إلا أن ذلك لم يعنِ شيئاً للمغالين في تقديسه وتمجيده، وهو ما أثار انتباه ابن خلدون في (المقدمة) حيث استغرب كل هذه المكانة المسندة لعلي في الوجدان الشعبي، مع أنه لا يتميز في فضائله عن صاحبيه أبي بكر وعمر مثلاً، وهو ما يفسره علي الوردي بقوله إن علياً بدأ سيرته الاجتماعية وهو محاط بهالة من الأحاديث النبوية المشيدة بفضله ومناقبه، وحين شاء القدر أن يقف في مواجهة قريش مقاوماً نزعاتها الطبقية ومطامعها في السلطة والمال، أصبحت ذكراه من جراء ذلك ملجئاً روحياً لكل من يشكو من الظلم والاستعباد، وهو ما أدى إلى انغماس الناس أكثر في محبة علي والإشادة بفضله، فأخذت الأحاديث المكذوبة عن فضائله تزيد على سبيل التراكم جيلاً بعد جيل، وهو ما تضاعف بعد أن زادت مظالم الأمويين وتعاظم فسادهم، فجعل الناس يرفعون من قدر علي أكثر وأكثر بعد أن تحول إلى بطل شعبي، حتى تجاوز الأمر كل الحدود بتأليه البعض له.


كانت "حرب الأحاديث" التي تروي فضائل الصحابة قد بدأت مبكراً جداً مع اندلاع الفتنة الكبرى، لكن استمرارها وتصاعدها ساهم في إثارة حيرة الكثيرين من عامة المسلمين، خصوصاً حين رأوا أن عائشة وطلحة والزبير بن العوام رضوان الله عليهم يقفون في جانب، ويرون علياً والحسن والحسين وعمار بن ياسر رضوان الله عليهم يقفون في جانب آخر، ولكل منهم فضائله التي ترويها أحاديث تعلي من شأنه، وهو ما جعل رجلاً حائراً يأتي إلى علي بن أبي طالب ليسأله: "أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل"، فقال له علي: "إنك لرجل ملبوس عليك.. إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف عليه"، وهي إجابة يعلق عليها الدكتور طه حسين بقوله: "ما أعرف جواباً أروع من هذا الجواب الذي لا يعصم من الخطأ أحداً مهما تكن منزلته، ولا يحتكر الحق لأحد مهما تكن مكانته، بعد أن سكت الوحي وانقطع خبر السماء".

كان معاوية يعلم تأثير الأحاديث النبوية الصحيحة التي تروي فضائل علي بكل ما كان له من قرب إلى نفس النبي عليه الصلاة والسلام، لذلك فقد كتب إلى ولاته يعلن لهم غضبه وسخطه "ممن روى شيئاً من فضائل أبي تراب"، وكانت هذه غلطة كبيرة ارتكبها معاوية كما يقول علي الوردي، فقد انطلق وعّاظ السلاطين يلعنون علياً وأهل بيته في كل محفل، ليحرص الناس على ذكر فضائل علي سراً ويغالون فيها كرد فعل على قرار السلطة بإهالة التراب على أبي تراب ـ اللقب الذي اشتهر به سيدنا علي بعد أن داعبه به النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة ـ وهو ما يعلق عليه التابعي عامر الشعبي قائلاً لولده: "انظر إلى علي وأولاده فإن بني أمية لم يزالوا يجتهدون في كتم فضائلهم وإخفاء أمرهم وكأنهم يأخذون بضبعهم إلى السماء، وما زالوا يبذلون مساعيهم في نشر فضائل أسلافهم وكأنما ينشرون جيفة"، وفي نفس السياق قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه: "ألا ترى علي بن أبي طالب وما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه وعيبه وغيبته؟ والله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء، ألا تراهم كيف يندبون موتاهم، ويرثيهم شعراءهم؟ والله لكأنما يندبون جيَف الحمير".

وبعد أن دفع علي حياته ثمناً لمواقفه، وانتصر معاوية عليه وبدأت سنوات حكمه "العضوض" طبقاً للتعبير المنسوب إلى النبي عليه الصلاة والسلام، واصل عموم الناس رفع علي إلى عنان السماء، حتى أن السيدة عائشة ندمت بعد سنين على موقفها من علي في موقعة الجمل، لأن معاوية صرح لها يوماً ـ كما يروي المبرد في (الكامل) ـ أنه كان يتمنى أنها لو تعرضت للقتل يوم الجمل، فتموت وتدخل الجنة "ونجعلك أكبر التشنيع عن علي"، ومع أنها عبارة ربما قيلت في إطار المزاح الثقيل، لكنها قادتها بشكل ما للتفكير في كل ما جرى، وأدى بها إلى أن تدرك خطأ موقفها الذي لا يمكن فصله عن الحساسية التي نشأت بينها وبين علي بن أبي طالب خلال حادث الإفك الذي برأها الله منه من فوق سبع سماوات ـ انظر للاستزادة كتاب (التاريخ الإسلامي العام) للدكتور علي إبراهيم حسن ـ ولذلك فقد قالت عائشة رضي الله عنها بعد ذلك: "وددت لو مت قبل يوم الجمل بعشرين عاماً"، ولذلك أيضاً ندم الزبير بن العوام على موقفه، حين وجد عمار بن ياسر يقف في جانب علي، فتذكر النبوءة المنسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام والتي تقول إن عماراً ستقتله "الفئة الباغية"، وحين حانت ساعة موت طلحة بن عبيد الله استغفر الله وطلب منه العفو على ما بدر منه في حق علي، لكن أوان الندم كان قد فات، بعد أن تراجعت تعاليم الرسالة الإلهية التي تأمر بالعدل والإحسان، وتنهى عن الظلم والفساد، لتعلو قواعد الملك العضوض حاجبة نور المبادئ القرآنية، فلا يبقى بعدها لكثير من البسطاء إلا أن يواصلوا تحويل علي بن أبي طالب إلى أسطورة ينفسون فيها عن غلهم وإحساسهم بالظلم، وهو ما لا ينبغي أن يمنعك عن التنقيب في تفاصيل سيرة علي بن أبي طالب، فتزيل منها المبالغات التي تاجر فيها مهاويس التشيع، وتمحو منها الهالة الأسطورية التي استثمرها قادة ميليشيات ولاية الفقيه، لتجد نفسك وقد ازددت إعجاباً بإنسانية ذلك الثائر الذي رفض أن يغض الطرف عن كل مظاهر الفساد، ورفض مهادنة رموز النفوذ، ورفض القبول بالمراوغة والانتهازية، فظلت ذكراه ملهمة لكل الثائرين من بعده وإلى الأبد.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.