الصغير أولاد أحمد، كتابة تاريخ الروح التونسية

12 ابريل 2016
احتاجته الثورة فعبّر عنها(أنترنيت)
+ الخط -
التبس الشاعر محمد الصغيّر أولاد أحمد في الذاكرة الجمعية التونسية بأبي القاسم الشابي. فقد بدا، للكثير من التونسيين، صورة لشاعر "أغاني الحياة"، استمرارًا لتمرّده وغضبه، امتدادًا لفتنته بالثورة بوصفها قابلة للتاريخ. كلاهما جاء من تونس الأعماق ليستقرّ في العاصمة، وكلاهما أثار عاصفة من ردود الفعل، وكلاهما فاجأ الجميع بنمط من الكتابة جديد. لا شيء يفرّق بينهما. كلُ شيء يجمع بينهما جمع توافق وانسجام. فليس غريبًا بعد هذا، أن تتداخل صورتا الشاعرين في اللاوعي الجماعي، أن يصبح أحدهما عين الآخر، يحيل عليه بطرائق شتّى.

عندما نشر الصغيّر أولاد أحمد أولى قصائده خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، بدت، على انخراطها في تيار الشعر الملتزم، ذات نبرة مخصوصة.. فيها غضب وتوتّر، وفيها أيضًا تهكّم وسخرية. صحيح أنها كانت شديدة الانهماك في الواقع، لكنها لم تكن تعبيرًا عن حقائق الوقائع فحسب، بل كانت تعبيرًا عن حقائق الواقع وقد امتزجت بحقائق النفس.
كان الإحساس بالخلل ينتاب كلَّ شيء، إيقاعًا متواترًا في قصائد الصغيّر أولاد أحمد، لهذا تحوّلت الكتابة عنده، إلى طريقة نقد للحياة ومحاولة لتقويم ما اختلّ من أمرها . فالشّعر هنا ذو طبيعة "وظيفيّة"، فهو لا يكتفي بتأويل العالم وإنّما يسعى إلى الفعل فيه، يلجم فوضاه ويعيد إليه توازنه المفقود.


هذه الطّبيعة الوظيفيّة للشّعر، تقتضي الإبانة حتّى يكون هذا الشّعر قادرًا على "إنهاض النّفوس" إلى الفعل، على حدّ عبارة القرطاجنّي. والإبانة هي قرينة الوظيفة التعبيريّة للشّعر، حيث تصبح اللّغة وسيطًا شفّافًا تبين عمّا تحمله وتخبر عنه، بسبب من هذا توقّى هذا الشعر الاستعارات البعيدة والرموز الغامضة، واستدعى الصور المألوفة التي تفرض على المتقبّل أن يحملها على ظاهرها فلا يعدل بها عنه.

لكن ينبغي أن نسارع إلى القول، إنّ هذه الوظيفة المرجعية لا تنفي عن هذا الشعر وظيفته الإنشائية، وهي الوظيفة التي تؤمّن له أدبيّته وتخرجه مخرجًا فنّيًا. بعبارة أخرى نقول: إنّ علاقة هذا الشعر بالواقع ليست علاقة كنائية أي علاقة تجاور وإرداف، وإنّما هي علاقة استعاريّة، أي علاقة تفاعل وحوار. النصّ الكنائي يظلّ على علاقة وطيدة بالمرجع، موصولًا به وصل تماسّ وترابط، أمّا النصّ الاستعاريّ فإنّه ينفصل عن المرجع ليؤسّس كيانه المستقلّ وهويّته الخاصّة.


ومثل أبي القاسم الشابي، أجرى الصغيّر الكثير من القصائد مجرى الأناشيد في صياغة إيقاعها وتوزيع مقاطعها وأساليب كلامها. وربّما استعار من الخطابة نبرتها ومن الأمثال حكمتها ومن رسالات الأنبياء لغة الاستشراف والتطلّع. والنشيد قصيد الجماعة تخلع عليه، من أثر ترديد بعد ترديد، ضربًا من القداسة فترتّله كما ترتّل صلاة، وتؤدّيه كما تؤدّي شعيرة. ولعلنا نذهب إلى أنّ الصغيّر أولاد أحمد قد دخل، من خلال النشيد، الذاكرة الجماعية في تونس: "نحبّ البلاد كما لا يحبّ البلاد أحدْ/ صباحًا مساء، وقبل الصباح، وبعد المساء / ويوم الأحدْ/ ولو قتّلونا كما قتّلونا/ ولو شرّدونا كما شرّدونا/ لعدنا غزاة لهذا البلدْ".

هذا القصيد تحوّل إلى نشيد للثورة التونسية تردّده الألسن كما تردّد النشيد الوطني. فهو، بقوافيه المنتظمة، وبحره المتقارب، ولغته المفعمة بالعواطف، التبس، في الذاكرة الجمعيّة، بقصائد الشابي الوطنية. لكن أهمّ ما يمكن ملاحظته أنّ القصيدة الملتزمة قد جنحت مع الصغيّر أولاد أحمد إلى أسلوب السخرية، وهي سخرية لاذعة، سوداء، فيها قسوة ومرارة، وفيها جرأة وتحدّ. كلّ شيء، في قصائد هذا الشاعر قد طالته سياط السخرية وهي سخرية حكيمة، عاقلة، لم يعرفها الشعر الملتزم العربي الذي هو في الأغلب الأعمّ شعر متجهّم، صارم، رصين.
وتتجلّى هذه السخرية أقوى ما تتجلّى في قصيدته "الوصية": "إنّ وطنيتي / ما أثقل إنّ في بداية هذه الجملة الرومانية/ محكوم عليك أن تنصب اسمها وترفع خبرها/ حتى وأنت تأكل/ حتى وأنت تقلع ضرسًا/ حتى وأنت تصيح في الصحراء".



هذا النوع من الشعر الذي كتبه أولاد أحمد، يذكّرنا باستمرار بأنّ اللغة هي سكن الإنسان، ذاكرته الذاهبة بعيدًا في الزمن، طريقة حضوره في العالم، عنوان تيهه وانكساره. فالشاعر ما فتئ يولي الأداة كلّ عنايته، ويعمل على خلق لغته المخصوصة مستدركًا على تيّار أدبيّ جعل الشعر، الذي هو في الأصل مفارق للواقع، مطابقًا له.
مدوّنة أولاد أحمد، أثبتت أنّ النصّ الشعريّ خطاب مستقلّ بنفسه غير مفتقر لغيره، له خصائصه المتميّزة وآلياته الفاعلة وطرائقة في إنشاء الكلام مختلفة.

لا شكّ في أنّ الثورة التونسية قد دفعت التونسيين إلى إعادة اكتشاف قصائد الصغيّر أولاد أحمد، خاصّة وأنّ هذه الثورة كانت في حاجة إلى صوت شعريّ يعبّر عنها، ويتغنّى بقيمها. أغلب القصائد التي كتبت عقب هذه الثورة، كانت انفلاتًا تلقائيًا للمشاعر، وتعبيرًا مباشرًا عن حماسة طارئة. لقد نسي شعراؤها، في غمرة حماستهم، أنّ الشعر ليس الانفعال، وإنما هو تحويل الانفعال إلى شكل، أي إلى طريقة في القول مخصوصة، أي إلى كتابة على غير مثال سابق.

من الشعراء الذين خرجوا على هذا النمط من الشعر الذي يتّكئ على اللغة المتعدية، الصغيّر أولاد أحمد، فكانت أناشيده أقرب القصائد إلى وجدان الجماعة تفصح عن رفضها لواقع قديم وتشوّفها لواقع مختلف. كانت وثيقة وجدانية وشعرية تؤرخ لتلك المرحلة؛ صرخة احتجاج وتمرّد، وبعبارة واحدة كانت كتابة فريدة لتاريخ الروح التونسية. لذا تبنّت الثورة التونسيّة شعر الصغيّر أولاد أحمد، وعدّته صوتها الذي ارتفع عاليًا في وجه الطغاة، ومازال يرتفع مبشرًا بعالم أكثر نقاء وأقلّ جورًا.

المساهمون