الصراع الروسي الغربي على أوكرانيا

20 مارس 2014

البحرية الروسية في أوكرانيا

+ الخط -


يعود الصراع الدولي بين روسيا والغرب حول أُوكرانيا، أَساساً، إِلى سعي الأولى إلى جعلها دولة عازلة استراتيجياً، وأيديولوجياً، من جهة، وإِلى سعي الثاني إلى بسط نفوذه على تركة الاتحاد السوفياتي الأوروبية، بتوسيع الدائرة الديموقراطية شرقاً، تمهيداً لمواصلة التوسيع المزدوج لحلف الأطلسي "الناتو" وللاتحاد الأوروبي، من جهة أُخرى.

توسع الحلف الأطلسي شرقاً، ليصل إلى التخوم المباشرة لروسيا، غير مكترث بتنديداتها. فبعد التوسيع الأمني (الأطلسي)، جاء التوسيع الاقتصادي - السياسي (الأوروبي). أَي بعد تأمين المنطقة، وضم دولها إلى الجماعة الأمنية الأورو-أطلسية، تم تدعيم العملية، بمنحها العضوية في الاتحاد. والملاحظ أَن التوسيع المزدوج للأطلسي وللاتحاد الأوروبي شرقاً، لم يطرح إِشكالاً يذكر، باستثناء التحفظات الروسية، لا إِقليمياً، ولا داخلياً، لأن رغبة دول أوروبا الشرقية في الانضمام إِلى المنظمتين كانت قوية، لكن الوضع يختلف مع أوكرانيا لأسباب عدة.

أَول هذه الأسباب، عدم نجاح الانتقال الديموقراطي في البلاد، على الرغم من تحولات ما بعد الحرب الباردة و"الثورة البرتقالية". فعلى عكس دول أوروبا الشرقية الأخرى، لم تتمكن أوكرانيا (وبيلاروسيا) من إنجاح العملية الديموقراطية، وإحداث القطيعة مع الإرث التسلطي، وبقيت تتأرجح بين نماذج تسلطية فرعية، أَقرب إِلى تسلطية الأمس منها إِلى الديموقراطية. ثانيها، انقسام أوكرانيا على نفسها، يتجاذبها اتجاهان، يصعب التوفيق بينهما؛ غربي ينادي بالانضمام إلى المجموعة الأورو-أطلسية، وشرقي يقول بالالتحام بروسيا، وهذا ما يطرح إشكالية الانتماء الجيوسياسي المستعصية الحسم. ثالثها، وجود جزء من الشعب الأوكراني من أَصل روسي، وتحديداً في شبه جزيرة القرم، والتي هي، أَصلا، أَرض روسية منحت لأوكرانيا التي تسكنها أغلبية روسية. وبالتالي، فبالنسبة لهؤلاء ولروسيا، يتعلق الأمر بعلاقة خاصة، يصعب تمييعها بدعوى الديموقراطية، أو مبدأ احترام الوحدة الترابية لأوكرانيا. رابعها، تعتبر روسيا أوكرانيا القلعة (الشرقية) الأخيرة، إِنْ سقطت، فإن الأفكار والقيم الأوروبية (الديمقراطية) غير المرغوب فيها ستصل إِلى حدودها، وهذا ما تسعى لتجنبه مهما كان الأمر، خصوصاً أن تحفظاتها وتنديداتها السابقة بشأن توسيع "الناتو" شرقاً أعطت الانطباع للغرب بأنها ضعيفة، وأنها تخضع للأمر الواقع. وعليه، يبدو تشددها حيال الأزمة الأوكرانية دلالة على نهاية إذعانها، وعلى اعتبار أوكرانيا حصناً أخيراً عازلا، لا يمكن التفريط فيه. خامسها، رغبة روسيا في الاحتفاظ بقاعدة سيباستوبول في القرم لأسطولها البحري.

تعي روسيا أَن الغرب لن يستخدم القوة في أوكرانيا، لمنعها من ممارسة نفوذها، ولعب الدور الرئيس في رسم مشهدها السياسي، وربما، أَيضاً، في إِعادة رسم خريطتها الجغرافية. كما كان الغرب يعي أَن روسيا لن تستخدم القوة لحماية صربيا من التدخل الأطلسي، والحيلولة دون اقتطاع إقليم كوسوفو من أراضيها. ومن ثم، يمكن القول إن روسيا تتحرك اليوم إزاء أوكرانيا، أَيضاً، مناكفةً ونكايةً في الغرب الذي تصرف بطريقة مشابهة حيال صربيا. ويبدو أَن التاريخ يعيد نفسه، فخلال أَزمة كوسوفو، نددت روسيا بالموقف الغربي، بدعوى خرق القانون الدولي، وها هي الدول الغربية تندد اليوم بموقف روسيا إزاء أَزمة أوكرانيا، بدعوى انتهاك القانون الدولي.

ومما سبق، يمكن القول إن الصراع الروسي-الغربي على أوكرانيا ليس خلافاً حول أوكرانيا بحد ذاتها فقط، وإنما هو، أيضاً، نتاج تراكمات خلافية منذ نهاية الحرب الباردة، كانت الغلبة فيها للطرف الغربي على حساب روسيا. يريد الغرب تكريس النهج نفسه؛ توسيع الدائرة الديموقراطية بضم دول أوروبا الشرقية سابقاً إلى المجموعة الأورو-الأطلسية، وتطويق روسيا ديموقراطياً، وبشكل نهائي على الأقل، على حدودها الغربية. بينما تريد روسيا إيقاف هذا الزحف، بل ومحاولة عكس العملية، بإفشال الإنزال الغربي المتواصل على حدودها الشرقية، ساعيةً لجعل أوكرانيا دولة عازلة استراتيجياً (تجنب انضمامها إلى الناتو) وأَيديولوجياً (تفادي تحولها إلى دولة ديموقراطية، تصبح مصدر متاعب قيمية – القيم الديموقراطية – لروسيا). وعليه، فتصلب الموقف الروسي – في وقت استعادت فيه روسيا قواها الاقتصادية والعسكرية – يوحي بأَن موازين التهديدات تميل إلى صالحها بحكم الجغرافيا (الجوار المباشر مع أوكرانيا)، والترابط السكاني (الأقلية الروسية في القرم وحتى الميول الروسية لسكان المناطق الشرقية من أوكرانيا). ولو ركزنا، تحديداً، على الاتحاد الأوروبي، لقلنا إن توسيعه بلغ درجة الإشباع، ووصل إلى خطوط التماس الاستراتيجية المتاخمة لروسيا، ما يطرح تساؤلاتٍ عن حدود الاتحاد، خصوصاً وأنها أول مرة يجد الاتحاد فيها نفسه أَمام بلد قد ينضم إليه، لكن جزءاً من شعبه غير راغب في ذلك، بل ومعادٍ أَي توطيدٍ للعلاقة مع أوروبا.

أَخطأ الغرب، وخصوصاً أوروبا بمخاطبة جزء فقط من الشعب الأوكراني، وإِقصاء الجزء الآخر. وهكذا، بدل طمأنته واستمالته استعدته. أما روسيا، فأخطأت هي الأخرى، فبدل طمأنة الجزء المناوئ لها من الشعب الأوكراني، استعدته، مزايدةً في دعمها وحقها في حماية الجزء الموالي لها (خصوصاً الذين هم من أصل روسي)، وأصبح لكل طرف (الغرب وروسيا) موالاة ومعارضة في أوكرانيا التي انقسمت على نفسها.

ما المخرج؟ قد يكمن الحل في التوصل إِلى صيغةٍ تجعل أوكرانيا ديموقراطية بما فيه الكفاية، من منظور غربي، وديموقراطية محدودة من منظور روسي، ليس فقط، لحفظ ماء وجه الطرفين الدوليين المتصارعين، وإِنما لتجنيب البلاد التقسيم، وربما الحرب الأهلية، خصوصاً أن هذه الصيغة ستسمح، مع مرور الزمن، بجمع شمل أبناء الشعب الواحد، وبناء ديموقراطية أوكرانية، لا هي معادية للغرب، ولا هي معادية لروسيا. وعليه، فإن الصيغة المستقبلية التي قد ترضي الطرفين الدوليين، هي أوكرانيا ديموقراطية، لكن من دون العضوية، لا في "الناتو" ولا في الاتحاد الأوروبي، مع علاقة مميزة مع روسيا والغرب في الوقت نفسه، وأَيضاً، مع حكم ذاتي موسع لإقليم القرم، وربما للمقاطعات الشرقية في البلاد.