24 يوليو 2024
الصادق المهدي يغادر مربع الصبر
نادراً جداً أن تجد السياسي السوداني البارز رئيس حزب الأمة، الصادق المهدي، غاضباً أو خارجاً عن طوره، فهو مهذب طويل البال جميل الكلام. هو رجل أمدرماني أصيل، يحمل الأجمل من صفات الأمدرماني من شهامة واستقامة وتهذيب وتواضع. في أمدرمان، يختلط السودان بكل أعراقه المختلفة وإثنياته في تحابّ جميل. مرّة كانت زوجة الصادق المهدي سارة، وهي جبلت على تحمل الرزايا، وتحملت مثله سمات أهل أمدرمان من صبر وسماحة، في أمسية في الدوحة، وقالت لمشاركة في مؤتمر زارتها: "الصادق رجل عجيب.. لا أتخيل كيف يمد يده مصافحاً الجماعة ديل، بعد كل الأذى الذي ألحقوه به وبأولاده". و"الجماعة ديل" لفظة عبقرية من قاموس العزل وحصار الشعب الانقلابيين من أنصار الإخوان المسلمين منذ لحظة الانقلاب الأولى عام 1989. فيقول أحدنا "الجماعة ديل.." قاصداً أنصار الجبهة الإسلامية الحاكمة، بمسماها الجديد "حزب المؤتمر الوطني". وهو تعبير عميق أصبح ثقافة تميز بينهم ونحن. قالت السيدة سارة تلك العبارة، وسط حصار من الاستغراب المحبب، كيف يضع الصادق يده على يد من آذوه، وكما وصفهم هو، ولا أحد غيره. وحكى لي التجاني الطيب، وكان رفيق السجن عقب انقلاب عمر البشير وبعد ليلة عصيبة، أن الصادق المهدي سمع في تلك الليلة الكثير من البذاءات والسباب والانحطاط والاستخفاف به، والأذى في نفسه، ولم يسلم منه حتى أنجاله وأسرته.
خطبة عيد الفطر المعتادة للصادق المهدي هذه السنة كانت غير عادية. ليست جريئة كما اعتاد الناس عليها فحسب، بل خارجة عن سياق الصبر الجميل، والأمل الذي عُرف به الرجل. شيء لافت فعلاً، فقد صدرت فيها إشارتان تعبران عن حالة من ضيق شديد بلغه تجاه الحكومة، وما وصلت إليه السودان من أوضاع متردية على جميع الصعد. فقد كان نجله عبد الرحمن مستشار الرئيس البشير يصل إلى القاهرة، وسط زفة من جوقة إعلاميي الحزب الحاكم، أنه سيعيد والده إلى الوطن ودائرة الحوار الوطني. فخرجت إشارة الصادق، هذه المرة وعلى غير العادة، قوية، "وناشفة" كما يقال، فهو ليس فقط يرفض لعبة الحكومة التي باتت مملة للغاية، بل زاد عليها أنه خرج عن لغته المهذبة، ليدعو، في خطبته يوم الجمعة (يوم العيد)، القوى السودانية الرافضة نظام الخرطوم إلى "توظيف ملاحقة الجنائية الدولية الرئيس، عمر البشير، في تحقيق خيارها الأول بالانتفاضة الشعبية، وصولاً لإسقاط النظام، أو قبول الحكومة بمطالب الشعب المشروعة". وكان حديثه هذا لافتاً، على الرغم من أنه لم يحظ بنصيب من الضوء، ربما لمصادفته احتفالات عيد الفطر.
قال المهدي في خطاب وجهه للأمة السودانية بمناسبة عيد الفطر "إن مسألة اعتقال البشير من محكمة لاهاي مسألة وقت. هذا إذا لم يقرر مجلس الأمن اعتقاله"، وأضاف "هذا يجعلنا، كقوى المستقبل الوطني، أمام خيارين. الأول، أن نعتبر الملاحقة لقيادة النظام رافعاً، يدعم جهادنا المدني لعزل النظام في سبيل تحقيق الانتفاضة السلمية التي تراكمت عوامل مولدها. والثاني، استجابة النظام لمطالب الشعب المشروعة للاتفاق على معادلة توفق بين الاستقرار والمساءلة وبين العدالة الاستباقية والعقابية، عن طريق المحكمة الهجين، أو أساليب العدالة الانتقالية الأخرى". ومعروف عن المهدي حسن اختياره كلماته، وهذه المرة الأولى التي يكون فيها على هذا القدر من الوضوح، مخاطباً الحكم بقيادة عمر البشير "حكمتم البلاد 26 عاماً بالقهر، وأنتم الآن في أضعف حالتكم، وتواجهون إخفاقات في إدارة الأمن والاقتصاد والعلاقات الدولية".
ضرب المهدي على الوتر الذي يزيد من درجة التوتر عند الرئيس عمر البشير نفسه، وهو وتر المحكمة الجنائية الدولية، فاختياره توقيت وصول نجله إليه في القاهرة، وهي على الأرجح زيارة تصب في اطار الجمعة العائلية في أيام العيد، وإطلاق هذه الرسالة القوية والموقف الواضح يدلل على أنه ليس فقط غادر محطة الصبر والتحمل، بل إنه قد فقد كل أمل في الابتعاد عن دائرة الصدام التي طالما عمل على تجنبها دوماً، ضمن ما أسماه النضال المدني السلمي. وبكلماته هذه، ربما أراد الصادق استباق الشائعات التي أخذت دوائر الحكومة تبثها أن الحكومة على اتصال مع الصادق المهدي للعودة، واستئناف الحوار الذي توقف عملياً من اللحظة التي اختارت الأجهزة الأمنية فيها اعتقاله وإهانته، وهو الذي كان الأكثر حماسة وتقبلاً لفكرة الحوار، من دون كل القيادات السياسية الأخرى المعارضة.
يغلق الصادق المهدي بهذا الموقف الأبواب أمام فكرة الحوار على طريقة الحكومة المراوغة، ويفتح احتمالات المواجهة والتصعيد.
والأرجح أن الحكومة سوف تستمر في نهجها الذي يهوم في ضروب من الوهم والخيال الخائب. والمهم، هنا، كيف سيمضي الصادق المهدي في هذه المواجهة التي اختارها في توقيتٍ يواجه فيه الحكم أوقاتاً صعبة وعصيبة.
قال المهدي في خطاب وجهه للأمة السودانية بمناسبة عيد الفطر "إن مسألة اعتقال البشير من محكمة لاهاي مسألة وقت. هذا إذا لم يقرر مجلس الأمن اعتقاله"، وأضاف "هذا يجعلنا، كقوى المستقبل الوطني، أمام خيارين. الأول، أن نعتبر الملاحقة لقيادة النظام رافعاً، يدعم جهادنا المدني لعزل النظام في سبيل تحقيق الانتفاضة السلمية التي تراكمت عوامل مولدها. والثاني، استجابة النظام لمطالب الشعب المشروعة للاتفاق على معادلة توفق بين الاستقرار والمساءلة وبين العدالة الاستباقية والعقابية، عن طريق المحكمة الهجين، أو أساليب العدالة الانتقالية الأخرى". ومعروف عن المهدي حسن اختياره كلماته، وهذه المرة الأولى التي يكون فيها على هذا القدر من الوضوح، مخاطباً الحكم بقيادة عمر البشير "حكمتم البلاد 26 عاماً بالقهر، وأنتم الآن في أضعف حالتكم، وتواجهون إخفاقات في إدارة الأمن والاقتصاد والعلاقات الدولية".
ضرب المهدي على الوتر الذي يزيد من درجة التوتر عند الرئيس عمر البشير نفسه، وهو وتر المحكمة الجنائية الدولية، فاختياره توقيت وصول نجله إليه في القاهرة، وهي على الأرجح زيارة تصب في اطار الجمعة العائلية في أيام العيد، وإطلاق هذه الرسالة القوية والموقف الواضح يدلل على أنه ليس فقط غادر محطة الصبر والتحمل، بل إنه قد فقد كل أمل في الابتعاد عن دائرة الصدام التي طالما عمل على تجنبها دوماً، ضمن ما أسماه النضال المدني السلمي. وبكلماته هذه، ربما أراد الصادق استباق الشائعات التي أخذت دوائر الحكومة تبثها أن الحكومة على اتصال مع الصادق المهدي للعودة، واستئناف الحوار الذي توقف عملياً من اللحظة التي اختارت الأجهزة الأمنية فيها اعتقاله وإهانته، وهو الذي كان الأكثر حماسة وتقبلاً لفكرة الحوار، من دون كل القيادات السياسية الأخرى المعارضة.
يغلق الصادق المهدي بهذا الموقف الأبواب أمام فكرة الحوار على طريقة الحكومة المراوغة، ويفتح احتمالات المواجهة والتصعيد.
والأرجح أن الحكومة سوف تستمر في نهجها الذي يهوم في ضروب من الوهم والخيال الخائب. والمهم، هنا، كيف سيمضي الصادق المهدي في هذه المواجهة التي اختارها في توقيتٍ يواجه فيه الحكم أوقاتاً صعبة وعصيبة.