حين تدخلها، انظر أين تضع أقدامك جيدًا، فهي معتمة، وأرضها ملساء بسبب الزيوت، ولا ضجيج للآلات، فالأيادي تصنع كل شيء بصمت. إلا أنك ستواجه صعوبة في إيقاف أحدهم للإجابة على أسئلتك الحائرة، إنها مصانع الصابون التقليدية التي يزيد عمرها على قرن ونيف في مدينة نابلس في الضفة الغربية.
اشتُهر الصابون النابلسي على مدار عقود مضت، حتى لقبه الكثيرون باسم "سفير التراث الفلسطيني". لكن هذه الصناعة اليدوية تتهددها مخاطر الاندثار خلال فترة ليست بالبعيدة. ففي عام 1967 كان هناك 35 "صبّانة" في نابلس، والآن تعمل منها ثلاث فقط، وهي طوقان، والشكعة، والمصري.
لكل عائلة صبّانة يقول الحاج معاذ أمجد المصري، مالك صبّانة المصري، لـ"العربي الجديد": "حينما نتحدث عن صناعة الصابون النابلسي نتحدث عن تاريخ الشعب الفلسطيني، فهذه المهنة تحمل عبق الحاضر والماضي. وهي مهنة متناقلة من جيل إلى آخر، ويعتبر الصابون النابلسي من أقدم وأعرق الصابون على مستوى العالم".
يعمل في كل صبّانة نحو 15 شخصاً، والعدد يعتمد أساسا على درجة العرض والطلب، حسبما يؤكد أحمد الفخوري، (أبو سالم)، الذي كان منهمكًا في عمله داخل صبانة "الشكعة". يقول: "اعمل في هذه المهنة المتعبة منذ 30 عاماً، لكنها في تراجع مستمر، وأخشى أن تختفي خلال الفترة المقبلة". يضيف: "في الماضي كان لكل عائلة نابلسية صبانة، فالعائلات كانت تتفاخر بهذه المهنة، أما الآن لم يتبق سوى صبانتين!". رحيل الدكشاب والجفت ! ويوضح الفخوري، الفرق بين صبانات الماضي والحاضر، قائلاً: "في الماضي كانت تستخدم أداة في عملية الطبخ تسمى الدكشاب، ولكن الآن استبدلت بخلاط كهربائي، وهو يوفر جهدا ووقتا، كما لم تعد تستخدم مادة "الجفت" المستخرجة من الزيتون لإشعال نيران الطبخ، واستبدلت بالسولار".
والدكشاب، أشبه بملعقة كبيرة الحجم يبلغ قطرها 7 سم، وطولها يقارب أربعة أمتار، وفي طرفها قطعة خشب دائرية الشكل، وكانت تستعمل في السابق للتحريك أثناء عملية طبخ الصابون. ويبين شامخ المصري أن الصودا الكاوية التي تعتبر عنصرًا أساسياً في صناعة الصابون كانت في السابق تأتي قطعًا صغيرة مثل حبات البندق وتطحن في الصبانات، أما الآن تستورد عبر أكياس جاهزة من الخارج.
رجال سياسة واقتصاد
يقول الحاج معاذ أمجد المصري: "هذه الصبانات ليست فقط منشآت تقليدية، بل خرّجت رجال سياسة واقتصاد في مطلع القرن الماضي، كانوا يعملون ويدرسون، بالتالي حققوا مرادهم في النهاية، أما الآن الشباب يخجلون من العمل هنا، فالحداثة تقتلنا!". ويوضح الحاج المصري أن الصبانات الآن تستخدم الزيت الصناعي، وهو وحده، ما يزال يعتمد على زيت الزيتون الصافي. "صابون حليب الماعز!" فتح الحاج المصري صنبور المياه وغسل يديه بقطعة صابون، مبينًا أنها مصنوعة من حليب الماعز بالإضافة إلى زيت الزيتون. عن سبب ذلك، قال: "قمنا بإنتاج هذا النوع كونه يساعد على تحسين ملمس الجلد، ويستخدم مرطبًا ومنظفًا للبشرة، وأثبتت التجربة نجاحه، وبات يطلبه العديد من المواطنين".
لكن ثمن قطع الصابون التي ينتجها المصري وتحمل ماركة "البدر" كبير مقارنة بالمستورد. فكل قطعة يقدر ثمنها بدولار ونصف، بينما يباع الصابون المستورد ذو الجودة المنخفضة في السوق، بسعر دولارين لكل خمس قطع أو أقل. "بسبب ارتفاع معدلات الفقر لم يعد بمقدور المستهلك الفلسطيني شراء الصابون مرتفع الثمن، ويلجأ لشراء الصابون المستورد وبعضه من إسرائيل، وأغلبه يصنع من الزيوت الصناعية، وربما من الشحوم" كما يؤكد نائل الكبج، مدير صبانة طوقان.
طريقة عمل الصبانات تشبه الخرابات الكبيرة ذات النوافذ، والمملوءة من الداخل بالحفر المظلمة والبراميل السوداء. ووصفها بعض المؤرخين العرب بأنها الحوش الطويل العالي السقف، وعلى سطحه بناء مسقوف دون غرف مشرع النوافذ. ويمتاز بنيانها بالأقواس الجذابة، ويوجد داخلها مستوعبات لتخزين زيت الزيتون، ومساحات مستوية لفرش طبخة الصابون.
يشرح أحمد الفخوري، طريقة عمل الصبانات، قائلاً: "طبخة الصابون تحتاج إلى نحو أسبوع لتجهز، فالخطوة الأولى تتمثل بإحماء الزيت على النار، ثم تعطى كمية من الصودا الكاوية، وبعدها تستخلص منها المياه، ويضع عليها كمية من المياه الحلوة، وتشعل النيران تحتها ساعة أو ساعتين، ليتم مجددًا استخلاص المياه منها". ويقول: "المرحلة الثانية، هي فحص وتقييم حجم الكمية التي يتوقع الحصول عليها، لتتواصل عملية الغسل من خلال إضافة المياه الحلوة إليها، وإشعال النيران تحتها، بعد هذه العملية طبخة الصابون تكون جاهزة، وصالحة للبسط على الأرض". ويضيف: "المرحلة الثالثة، تتمثل بنقل الصابون المطبوخ بعلب خاصة، وسكبه على الأرض على قياس محدد، وارتفاع معين لا يتجاوز 5 إلى 6 سم، وفي الخطوة الرابعة يختم الصابون بمطارق خاصة تحمل اسم وماركة الصابون، ليجري بعدها تقطيعها، ثم تبنى على شكل أبراج، يصل طولها إلى عدة أمتار، وذلك حتى يتاح للهواء الدخول بين قطع الصابون، كي تجف سريعاً. ويشير إلى أن الخطوة قبل الأخيرة - تقطيع الصابون- تحتاج قبل البدء بها إلى ثلاثة أيام في فصل الصيف، وإلى يوم أو اثنين في الشتاء. بينما الخطوة الأخيرة، يلف خلالها الصابون بورق خاص يحمل الماركة واسم الصبّانة، لتكون جاهزة للتوزيع أو التصدير.
أسباب تدهور الصناعة
يجمع العاملون في هذه المهنة التقليدية على أن عوامل عدة أسهمت في تدهورها وتهدد بانقراضها، وأبرزها إجراءات ومضايقات الاحتلال وإغلاقاته لمدن الضفة، بالإضافة إلى اتباع السلطة الفلسطينية فلسفة السوق الحرة، مما سمح لمنتجات أجنبية منافسة الدخول إلى السوق. والأجدى - بحسبهم - فرض رسوم عالية عليها لحماية المنتج الوطني وتنظيم عمليات الاستيراد. كما أن غلاء سعر زيت الزيتون، الذي يعتبر عصب هذه الصناعة أدى إلى غلاء ثمن المنتوج.
ويشير أحمد الفخوري، إلى أن السياسة لعبت دورًا في تدهور صناعة الصابون النابلسي، فبعد غزو صدام حسين للكويت وموقف منظمة التحرير آنذاك، أوقفت دول الخليج عملية استيرادها المنتوجات الفلسطينية، ومنها الصابون النابلسي مما أثر سلبًا على العديد من الصبانات في نابلس، مؤكدًا أيضاً أن قطاع غزة قبل حصاره كان يستهلك كميات لا بأس بها من الصابون.
اشتُهر الصابون النابلسي على مدار عقود مضت، حتى لقبه الكثيرون باسم "سفير التراث الفلسطيني". لكن هذه الصناعة اليدوية تتهددها مخاطر الاندثار خلال فترة ليست بالبعيدة. ففي عام 1967 كان هناك 35 "صبّانة" في نابلس، والآن تعمل منها ثلاث فقط، وهي طوقان، والشكعة، والمصري.
لكل عائلة صبّانة يقول الحاج معاذ أمجد المصري، مالك صبّانة المصري، لـ"العربي الجديد": "حينما نتحدث عن صناعة الصابون النابلسي نتحدث عن تاريخ الشعب الفلسطيني، فهذه المهنة تحمل عبق الحاضر والماضي. وهي مهنة متناقلة من جيل إلى آخر، ويعتبر الصابون النابلسي من أقدم وأعرق الصابون على مستوى العالم".
يعمل في كل صبّانة نحو 15 شخصاً، والعدد يعتمد أساسا على درجة العرض والطلب، حسبما يؤكد أحمد الفخوري، (أبو سالم)، الذي كان منهمكًا في عمله داخل صبانة "الشكعة". يقول: "اعمل في هذه المهنة المتعبة منذ 30 عاماً، لكنها في تراجع مستمر، وأخشى أن تختفي خلال الفترة المقبلة". يضيف: "في الماضي كان لكل عائلة نابلسية صبانة، فالعائلات كانت تتفاخر بهذه المهنة، أما الآن لم يتبق سوى صبانتين!". رحيل الدكشاب والجفت ! ويوضح الفخوري، الفرق بين صبانات الماضي والحاضر، قائلاً: "في الماضي كانت تستخدم أداة في عملية الطبخ تسمى الدكشاب، ولكن الآن استبدلت بخلاط كهربائي، وهو يوفر جهدا ووقتا، كما لم تعد تستخدم مادة "الجفت" المستخرجة من الزيتون لإشعال نيران الطبخ، واستبدلت بالسولار".
والدكشاب، أشبه بملعقة كبيرة الحجم يبلغ قطرها 7 سم، وطولها يقارب أربعة أمتار، وفي طرفها قطعة خشب دائرية الشكل، وكانت تستعمل في السابق للتحريك أثناء عملية طبخ الصابون. ويبين شامخ المصري أن الصودا الكاوية التي تعتبر عنصرًا أساسياً في صناعة الصابون كانت في السابق تأتي قطعًا صغيرة مثل حبات البندق وتطحن في الصبانات، أما الآن تستورد عبر أكياس جاهزة من الخارج.
رجال سياسة واقتصاد
يقول الحاج معاذ أمجد المصري: "هذه الصبانات ليست فقط منشآت تقليدية، بل خرّجت رجال سياسة واقتصاد في مطلع القرن الماضي، كانوا يعملون ويدرسون، بالتالي حققوا مرادهم في النهاية، أما الآن الشباب يخجلون من العمل هنا، فالحداثة تقتلنا!". ويوضح الحاج المصري أن الصبانات الآن تستخدم الزيت الصناعي، وهو وحده، ما يزال يعتمد على زيت الزيتون الصافي. "صابون حليب الماعز!" فتح الحاج المصري صنبور المياه وغسل يديه بقطعة صابون، مبينًا أنها مصنوعة من حليب الماعز بالإضافة إلى زيت الزيتون. عن سبب ذلك، قال: "قمنا بإنتاج هذا النوع كونه يساعد على تحسين ملمس الجلد، ويستخدم مرطبًا ومنظفًا للبشرة، وأثبتت التجربة نجاحه، وبات يطلبه العديد من المواطنين".
لكن ثمن قطع الصابون التي ينتجها المصري وتحمل ماركة "البدر" كبير مقارنة بالمستورد. فكل قطعة يقدر ثمنها بدولار ونصف، بينما يباع الصابون المستورد ذو الجودة المنخفضة في السوق، بسعر دولارين لكل خمس قطع أو أقل. "بسبب ارتفاع معدلات الفقر لم يعد بمقدور المستهلك الفلسطيني شراء الصابون مرتفع الثمن، ويلجأ لشراء الصابون المستورد وبعضه من إسرائيل، وأغلبه يصنع من الزيوت الصناعية، وربما من الشحوم" كما يؤكد نائل الكبج، مدير صبانة طوقان.
طريقة عمل الصبانات تشبه الخرابات الكبيرة ذات النوافذ، والمملوءة من الداخل بالحفر المظلمة والبراميل السوداء. ووصفها بعض المؤرخين العرب بأنها الحوش الطويل العالي السقف، وعلى سطحه بناء مسقوف دون غرف مشرع النوافذ. ويمتاز بنيانها بالأقواس الجذابة، ويوجد داخلها مستوعبات لتخزين زيت الزيتون، ومساحات مستوية لفرش طبخة الصابون.
يشرح أحمد الفخوري، طريقة عمل الصبانات، قائلاً: "طبخة الصابون تحتاج إلى نحو أسبوع لتجهز، فالخطوة الأولى تتمثل بإحماء الزيت على النار، ثم تعطى كمية من الصودا الكاوية، وبعدها تستخلص منها المياه، ويضع عليها كمية من المياه الحلوة، وتشعل النيران تحتها ساعة أو ساعتين، ليتم مجددًا استخلاص المياه منها". ويقول: "المرحلة الثانية، هي فحص وتقييم حجم الكمية التي يتوقع الحصول عليها، لتتواصل عملية الغسل من خلال إضافة المياه الحلوة إليها، وإشعال النيران تحتها، بعد هذه العملية طبخة الصابون تكون جاهزة، وصالحة للبسط على الأرض". ويضيف: "المرحلة الثالثة، تتمثل بنقل الصابون المطبوخ بعلب خاصة، وسكبه على الأرض على قياس محدد، وارتفاع معين لا يتجاوز 5 إلى 6 سم، وفي الخطوة الرابعة يختم الصابون بمطارق خاصة تحمل اسم وماركة الصابون، ليجري بعدها تقطيعها، ثم تبنى على شكل أبراج، يصل طولها إلى عدة أمتار، وذلك حتى يتاح للهواء الدخول بين قطع الصابون، كي تجف سريعاً. ويشير إلى أن الخطوة قبل الأخيرة - تقطيع الصابون- تحتاج قبل البدء بها إلى ثلاثة أيام في فصل الصيف، وإلى يوم أو اثنين في الشتاء. بينما الخطوة الأخيرة، يلف خلالها الصابون بورق خاص يحمل الماركة واسم الصبّانة، لتكون جاهزة للتوزيع أو التصدير.
أسباب تدهور الصناعة
يجمع العاملون في هذه المهنة التقليدية على أن عوامل عدة أسهمت في تدهورها وتهدد بانقراضها، وأبرزها إجراءات ومضايقات الاحتلال وإغلاقاته لمدن الضفة، بالإضافة إلى اتباع السلطة الفلسطينية فلسفة السوق الحرة، مما سمح لمنتجات أجنبية منافسة الدخول إلى السوق. والأجدى - بحسبهم - فرض رسوم عالية عليها لحماية المنتج الوطني وتنظيم عمليات الاستيراد. كما أن غلاء سعر زيت الزيتون، الذي يعتبر عصب هذه الصناعة أدى إلى غلاء ثمن المنتوج.
ويشير أحمد الفخوري، إلى أن السياسة لعبت دورًا في تدهور صناعة الصابون النابلسي، فبعد غزو صدام حسين للكويت وموقف منظمة التحرير آنذاك، أوقفت دول الخليج عملية استيرادها المنتوجات الفلسطينية، ومنها الصابون النابلسي مما أثر سلبًا على العديد من الصبانات في نابلس، مؤكدًا أيضاً أن قطاع غزة قبل حصاره كان يستهلك كميات لا بأس بها من الصابون.