في قصيدته "السكاكين تطعن ظهري"، يقول الشاعر المغربي كريم حوماري (1972 – 1997): "أمامنا أشواك/ وراءنا أشواك/ غربة أمل/ دارة ألم/ بقايا الجذوع المترامية/ في الصمت في القيود/ لي آخر رقم في لائحة المعدومين/ بقايا الذاكرة في الرماد/ قبل موت الأيديولوجيا/ لي آخر رقم في لعبة الأصوات/ ولي وطن اغتالته يد الشمس/ صلبوه ساعة حضور العاصفة".
لا حاجة لتوصيفٍ أبلغ مما قاله حين اختار أن ينتحر، تاركاً خلفه بعض القصائد، وقراراً إرادياً يقرّبنا من الجوهر، جوهر الأشياء، والنظر إليها بعمق. لعلّ الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر أضاء بعض ملامح الكينونة تلك التي جعلها حوماري تقوده إلى الخروج عن إمكانات الوجود وسؤال المعنى، وتتجاوزه نحو اللانهائي، حيث اللغة "هي بيت الكينونة"، ألم يجعل بذلك من الشعراء حرّاساً لها؟ ألم يعتبر، وفق هذا المنحى، من الشعر تحرّراً من الوجود، وأن يكون مؤسّساً للحقيقة؟
في مغامرة الذهاب نحو استبدال الجسد بحضور رمزي، يستطيع الشاعر أن يعبّر عن قضايا أعمق، قلّما نرى النصوص الإبداعية تتناولها في أجناس تعبيرية مختلفة، إذ إن قدَره أن ينتهك هذه الأسرار، والخلفيات المرئية واللامرئية لقضية أعمق تتمثّل بالوجود الإنساني.
هكذا اختار الشاعر المغربي عبد القادر حاوفي (1965 - 2014) غرفةً في فندق في مدينة سيدي بنور (قرب مدينة الجديدة)، فشنق نفسه تاركاً رسالة يوضّح فيها أسباب انتحاره تتضمّن تلك الجملة الومضة: "أن يقف قوياً في وجه الموت"، متوقفاً في رسالته عند الأسباب التي دفعته إلى الرحيل: "أخفقت في الشعر والكتابة والرسم ولم أوفق حتى في حماقاتي الجميلة في حضن الحياة. وأمام كل الإخفاقات التي واجهتني في الحياة سأقف اليوم قوياً في وجه الموت.. وداعاً".
نهايةٌ تقود إلى بحث جديد عن المعنى خارج المعنى ذاته بعد الخلاص من ذلك الألم العاطفي الذي قد يبدو عابراً بالنسبة إلى معظم البشر، لكنه ليس كذلك لدى الفنان حوري الحسين، والقاص سعيد الفاضلي، حيث يظهر الانتحار خلاصاً نحو الممشى البعيد واختياراً واعياً للموت ونفياً للموت الذي يتكرّر في حيوات المبدعين، ولا يكون ذلك إلا عبر تغيير الوجهة، والارتقاء من بوابة اللغة، إلى الحلول خارجها، وجعل صورة الموت أبدية ومستمرّة ودائمة الإشراق.
الشاعر الجزائري عبد الله بوخالفة انتحر سنة 1988، رامياً نفسه تحت عجلات قطار ولم يتجاوز بعد الأربعة والعشرين عاماً، ليصنع حضوراً جديداً بعد أن رحل قبل ذلك عدّة مرّات، وهو الذي يقول في قصيدة "التروبادو": فتحت الرؤى وانتحرت مع ورقات الصباح/ مع النور والسحب الشجرية إني انتحرت/ ومن شفتيك تفجّرت المطرات التي حملتني إلى الليل/ إني انتحرت/ وناديت في كلّ كهف بصوتي/ الخراب".
هنا تتعدّد قراءات الموت الإرادي وتنزاح نحو تأويلات يتداخل فيها الذاتي والموضوعي والميتافيزيقي بالمادي في محاولة لتفسير وقائع انتحار الفنانين والمبدعين طوال التاريخ، بدءاً بـ"تبريرات" أفلاطون ومروراً بشروحات شوبنهاور حول الألم النابع من فكرة الموت وليس من الموت بحدّ ذاته، وليس انتهاء بخلاصات كامو باعتبارها رفضاً مطلقاً للحرية.
قد يكون الاختيار عند الشاعر التونسي نضال غريبي والشاعريْن الجزائرييْن صفية كتو وفاروق سميرة وغيرهم من الشعراء المغاربيين واحداً، يذكّرنا بقدر الشاعر في هذا العالم فكلّما اتجه إلى خرابه وإلى العدم، كان الشاعر أكثر عرْضة لاستدراج الموت إلى كتاباته، ليتحوّل هذا الاشتباك الوجودي، في المضي بكينونته إلى استعارة كبرى تؤرّق وجوده اسمها الموت.
كثيرون قد يتساءلون عن سرّ قوة هذا النداء الذي يأتي للشاعر وهو يختار بإرادته لحظة موته ورحيله، وهو المبدع المجبول أساساً لتكريس قوة الأمل. ألم يقرّر الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو الانتحار في شتاء عام 1935، ولما سرَق كتاباً من أحد المكتبات وذهب إلى قراءته، في أحد مقاهي الحيّ اللاتيني، انشدّ إلى الحياة من جديد.
نتذكّر أيضاً جملة آرثر كوستلر (1906 ـ 1983): "أريد أن يعلم أصدقائي أنني أتركهم في سلام، ليس دون أمل ضئيل بحياة أخرى بعد الموت.. حياة أخرى دون حدود للزمان والمكان والمادة خارج أطر مفاهيمنا"، بعد أن اختار الموت الرحيم عقب صراع طويل مع مرض السرطان.
إنّ صيغة التفرّد، التي يشكّلها صوت الشاعر في اتجاه كلّ ويلات العالم، هي الأقدر على أن تقرّبنا من فهم، تلك الإرادة الواعية، في الرحيل، وسواء تعلّق الأمر، في ارتباط الشاعر بقضايا كبرى، أو ظلّ حريصاً على قضايا اليومي، فإن سلطته الرمزية في الأدب والوجود، جعلته دوماً، عنواناً لسؤال كبير يتعلّق بالكينونة، وبأزمة الوجود الإنساني.
الرغبة في الخلاص قد تكون الجامع لكثير من حالات الانتحار لدى عدد كبير من الكتّاب والفنانين في التاريخ، وهي رغبة بكلّ حمولاتها التراجيدية والفجائعية تنفتح على أكثر من سؤال، ليس فقط عن الأسباب والدوافع، ولا عن دلالتها الفلسفية والمعرفية والنفسية التي شغلت بال الفلاسفة والمفكرين، إنما ينفتح السؤال أكثر على العالم الذي دفع بهؤلاء إلى مغادرة الحياة بإرادة واعية تاركين "شغف الحياة" للآخرين.
لقد اعتبر عبد القادر حاوفي، الموت "مجرّد نوم تنقصه الأحلام"، وعندما قرّر أن ينتقل إلى لحظة أخيرة، رسّم عن طريق صياغة شعرية منفاه الإرادي: "عذراً سأنسى قواعد اللغة، كيف هو الانتحار؟". ألا يفترض بالشاعر أن يتعامل مع اللغة، وهو يفكّر في الوجود، وفي اللامتناهي؟ أليست اللغة وسيطه وعبوره التراجيدي والاستعاري إلى مستوى أرقى يراه خلاصاً من هذا العالم المبتذل؟
يقيم الشاعر في اللغة، ويحدث أن يدعونا، كما فعل الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، أن نجرّب الموت، أو كيتس الذي يرى فيه مكافأة الحياة الكبرى، أو صفية كتو حين قالت إن "فدانا واحدا على هذه الأرض يكفي لسعادتها"، فيما يرى الشاعر فاروق سميرة وهو صديق الشاعر عبد الله بوخالفة، أننا "بقايا دخان"، ويعانق نضال غريبي وجعه في صمتٍ.
تظلّ النظرة إلى الانتحار أسيرة توتّر بين حقيقتين تبدو كلّ منها قابلة للتصديق، بين كونه طريقاً لتحقيق الخلود أو تدميراً للذات، بين أن يكون اختياراً حرّاً أو أنه التعبير المطلق للاستسلام.
عوداً على كريم حوماري الذي يرى نفسه "آخر رقم في لعبة الأصوات"، فإن هؤلاء المنتحرين جميعاً أحبّوا كلّ هذه الأضداد، واختاروا العبور الأبدي والأزلي من أجل الإقامة النهائية في استعاراتهم، أو في قصائدهم التي تحلّلوا فيها.