يُعدّ محمد الشريف الطريبق (العرائش، 1971) أحد الأسماء الفنية المتميّزة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة في السينما المغربية، بطرحها مواضيع تستلّ عوالمها التخييلية من الثقافة المغربية، بأحلامها وأوجاعها وأفراحها وانكساراتها. أفلام قليلة جعلته يبلغ منزلة مرموقة في السينما المحلية، خلال أعوام قليلة، علمًا أن هذه السينما شهدت في الفترة نفسها تطوّرًا نوعيًا في التصوير واختيار المواضيع.
القصد هنا كامنٌ في ظهور موجة جديدة في السينما المغربية، يمثّلها كمال كمال وهشام العسري ومحمد مفتكر والشريف الطريبق وغيرهم ممن جعلوا الواقع المتخيّل سندًا فنيًا وسينمائيًا لهم.
"العربي الجديد" حاورته في مواضيع سينمائية مختلفة، ذاتية وعامة.
أبدأ حواري معك بخطواتك الأولى في الإخراج. أي ذكرى تحتفظ بها؟ متى وأين وجدت نفسك منخرطًا كلّيًا في السينما المغربية؟
طفلاً، ارتاد والداي قاعات السينما كطقسٍ يومي، من دون حاجة إلى تبرير. لكن، عندما كبرتُ قليلاً، حُرِمُت من هذا الطقس، على خلاف أصدقائي في الحي والمدرسة. المجتمع تغيّر، ومعه تحوّلت قاعات السينما إلى "مرتع للانحراف"، كما قال والداي اللذان عبّرا مرارًا عن خوفهما عليّ من إدمان ارتياد قاعات السينما والمخدرات والتدخين. ربما كانا على صواب بمعنى من المعاني.
لم أنتسب إلى "معهد السينما"، التي اكتشفتها بفضل الأندية السينمائية، التي كانت ـ مع "الجمعية الوطنية للأندية السينمائية في المغرب" في سبعينيات القرن الـ20 وثمانينياته ـ واجهة صراعات سياسية. كان الفيلم تبريرًا للنقاش السياسي آنذاك، خصوصًا أن هناك حركات سينمائية تجديدية في العالم حصلت في النصف الثاني من القرن نفسه، كالواقعية الإيطالية الجديدة والموجة الجديدة في فرنسا وسينما ذات توجّه يساري، أو على الأقل توجّه ليبرالي، في إنكلترا. هذه حالة العالم حينها، والأندية في المغرب انعكاس لها.
برأيك، ما هو الدور الذي يمكن أن تؤديه الجمعيات والأندية السينمائية للإنتاج السينمائي المغربي؟
هذا الدور سهل، والجميع يعرفونه. فالنادي السينمائي لحظة كبيرة جدًا في تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة ومسارها، لتقديمها مثقفين وسياسيين ومسؤولين "تكوّنوا" في الأندية السينمائية وحلقات النقاش. في السبعينيات والثمانينيات، كان يصل عدد القادمين إلى النادي السينمائي صباح يوم أحدٍ مثلاً إلى 500 شخص، وهذا في كلّ مدينة مغربية تقريبًا. لو ظلّ حجم هذا التأثير كما هو إلى اليوم، لكان واقع السينما المغربية بخير.
الأندية السينمائية المستمرة إلى اليوم باتت تُنظّم مهرجانات أفلام هواة. هذا ليس دور النادي السينمائي، الذي هو عرض أفلام ومناقشتها. هذه هي أهميته التي لا يُمكن لأحدٍ إنكارها. أدّى الغياب والتقلّص إلى وجود شبابٍ لا يعرفون قاعات السينما، فتحوّل الأمر من "مرجعية سينمائية" إلى "مرجعية تلفزيونية"، وغالبيته تافهة للأسف.
في "زمن الرفاق" (2008)، تُقدِّم بطل الفيلم شابًا يساريًا ينتمي إلى أحد التكتلات القاعدية الماركسية (فصيلة من فصائل اليسار، تُعتَبر أخطرها لأن تدخّلاتها عنفية غالبًا)، وشخصًا حالمًا ورومانسيًا ومثقفًا، يناقش ويساجل في مواضيع كثيرة ومهمّة؛ بينما الشاب السلفي يبدو ضعيفًا وعاجزًا. هل يمكن القول إن تجربة اليسار شكّلت الملاذ الآمن لك، مقابل الحركة الإسلامية في الجامعة؟
أعتقد أن الصورة المُقدَّم بها السلفي الإسلامي ليست كاريكاتورية، لأن النقاش الذي يطرحه الطالب الإسلامي في الحلقيات (تتخّذ شكل دائرة وسط الجامعة، وهي طريقة تُسمّى في اليونان "أغورا"، إذْ يكون شخصٌ في وسط دائرة من الطلبة المتجمهرين حوله أثناء تقديمه درسًا للنقاش) يتبنّى تحميل "منظّمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" (منظمة طالبية تهتمّ بتنظيم الحلقيات وتسجيل الطلبة الجدد ومساعدتهم، كانت بزعامة اليسار في تلك الفترة، وباتت اليوم في أيدي الإسلاميين) ما لا تحتمله سياسيًا. إلا أني أروي الحكاية من وجهة نظر طالب يساري قاعدي، فأنا لا أعرف شيئًا عن الآخر. ثم أنّ الجمهور يتعاطف أوتوماتيكيًا مع الطالب اليساري، لأن له (الجمهور) إمكانية الدخول إلى حميميته وعلاقاته وأحلامه. أما الطالب الإسلامي فيبقى بعيدًا جدًا، ولا نتمكّن من التعاطف معه.
كيف جاءتك فكرة الفيلم، الذي يروي قصة المسار الفكري والنضالي في "الجامعة المغربية لمنظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب" في التسعينيات الفائتة، التي شكّلت مرحلة احتضار مباشر للمنظمة؟
انبثقت الفكرة من مشاهدتي أفلامًا أجنبية مختلفة تتناول حركات شبابية أو التزامات سياسية. روادتني فكرة تناول موضوع كهذا مستلّ من الواقع المغربي ومن التجربة الشخصية أيضًا، لأن "زمن الرفاق" مقتبس من مذكرات اليساري عزيز قنجاع، رفيقي في السكن. مذكرات تسرد مسار الطالب في الهياكل التنظيمية، خصوصًا تلك الخاصة بفصائل الطلبة القاعديين. حاولت تطعيم الحكاية بتفاصيل أعرفها في الجامعة، كحكاية الشابات اللواتي يتميّزن باتخاذ قرارات جريئة، ولهنّ أحلام مختلفة. حاولت إضافة تجربتي الشخصية، فبدلاً من أن تُروى حكاية الفيلم على لسان سعيد (البطل)، حاولت سردها من وجهة نظر فتاة، تأتي إلى الجامعة في مناخٍ يجعل حضورًا كهذا "قطيعة" مع الفضاء الأسري ومع التربية التي تتلقّاها من صغرها. هذا بحكم تربية اجتماعية في المغرب.
"أفراح صغيرة" (2015) احتفال وعرس فني. يغوص في جذور الثقافة المغربية بألوانها كلّها. فضلاً عن كونه مجموعة حكايات مألوفة نعتاد الاستماع إليها من الجدّات والأمهات. ما الذي أيقظ فيك فتنة الحكي لتتسلّل، بواسطة الكاميرا، إلى عالم النساء كطفل صغير؟
"أفراح صغيرة" تنويع عن "زمن الرفاق". إلى حدّ ما، يتناول الشريحة الاجتماعية نفسها. "زمن الرفاق" قائمٌ في التسعينيات. "أفراح صغيرة" في الخمسينيات. الفيلم المقبل ربما يكون استمرارًا لهذا المسار الذي يبغي كلامًا عن مرحلة الشباب بأحلامها وأوجاعها كلّها، في زمن سياسي ـ اجتماعي ـ ثقافي محدّد.
ما أثارني في عالم النساء هو التقاليد والعادات، واكتشافي الموسيقى الأندلسية أثناء تصويري "موال" (2004)، الذي أتاح لي الغوص في عالم النساء كي أكون لسان أحوالهنّ.
هذا من الناحية الفنية. أما من الناحية الفكرية، أردتُ فيلمًا يهتمّ بالثقافة المغربية. في السينما الأجنبية مثلاً، هناك ارتباط وثيق وحميميّ بثقافات دول عديدة، لأن المخرجين يُقدّمون إسهامات كبيرة لثقافاتهم المحلية. من هنا "عالميتهم" برأيي. بالتالي، لدي رغبة تتجاوز السينما: تبيان مكامن القوة والجمال في الثقافة المغربية، بسلبياتها وايجابياتها.
الفيلم يعجّ بالكثير من الألبسة المغربية القديمة والصُوَر الفوتوغرافية لتطوان القديمة، فضلاً عن لوحات تشغل حيّزاً كبيرًا في الفيلم. كيف تعاملت مع هذا المعطى الصعب؟ ما هي المراجع الأساسية التي اعتمدت عليها لبناء الفيلم؟
حقيقة، هذه لحظة تتطلّب عملاً كبيرًا. قبل الزيّ، بحثتُ عن صُوَر تعكس بقايا الخمسينيات الفائتة لاعتمادها كمرجعية بصرية. في مدينة تطوان مكتبة وطنية عامة تحتوي على نحو 50 ألف صورة شاهدت بعضها، بالإضافة إلى مشاهدتي صورًا خاصة ببعض العائلات. المرحلة الأولى متمثّلة بمشاهدة هذه الصُوَر، وأيضًا مشاهدة أفلام إسبانية تتناول مرحلة الاستعمار.
ماذا عن السيناريو؟ هل كتبته على فترات متقطعة، أم دفعة واحدة؟
بدأت التفكير بـ"أفراح صغيرة" عام 2005. منذ ذلك الوقت، التقيتُ أناسًا أعرفهم. كما اطّلعت على كتب ومراجع كثيرة، منها "نساء على أجنحة الحلم" لفاطمة المرنيسي، وعلى كل ما يتناول ذلك الزمن الذي لا ينتمي الى الثقافة المغربية. إلّا أني ظللت أعود إليه لوجود أشياء مشتركة مع الثقافة الإنسانية.
هل أنت مقتنع بالطريقة التي يتعامل بها النقاد مع أفلامك؟
حين يكتب ناقد، مهما تكن درجة نبوغه عالية، عن فيلم لي، إيجابًا أو سلبًا، هذا يفرحني حقًا. الخطر والصعب لدى المخرج هو اللامبالاة. أظنّ أن في المغرب، كما على المستوى العربي، يذهب النقد صوب الثيمة أو القصة والجانب الأدبي في العمل أكثر مما يهتمّ بالفني والسينمائي، فيظل النقد صحافيًا يدفع الناس إلى المشاهدة. الناقد الحقيقي هو من يلج النوايا الخفية للمخرج، ويستطيع الغوص في مستويات الفيلم التي ربما لم ينتبه المخرج إليها. لذلك، فالناقد المحترف هو من يكتب بهدف تطوير العمل السينمائي. يُمكن للمخرج الذي أنجز عملاً سيئًا مفككًا يعرف، انطلاقًا من الناقد وكتاباته، مكامن الخلل والضعف في عمله. حتى المخرج الناجح يشتغل معه في مناطق القوة فيساعده على التفكير دائمًا في أعماله المقبلة. هكذا، يُصبح الناقد جزءًا من العملية الفنية.
أحيانًا، أشعر أني أنجز سينما ليست معقدة وليست تجارية، أي أني أحاول من خلال حكاية، العثور على عمق. بالتالي، فإن نقّادًا تُقدّم لهم أعمال كهذه لا يجدون ما يكتبون عنها لأنهم ألفوا أعمالاً معقّدة وغير مفهومة كي يشعروا أن العمل مهمّ جدًا. هذا، بنظري، خطأ.