ما لا يعرفه كثير من الشعبويين ومُتفرّغي السباحة المجانية في أحواض الفيسبوك الزرقاء أنّ الألفاظ والشتائم التي تُعتبر نابيةً، وتطاول عائلة المشتوم بها، وتمس أمه وأخواته من الرأس الرذيل حتى الأعضاء التي أنجبته في بلاد كثيرة، ليس لها نفس الوقع في لبنان. إذ تستطيع أن تسأل من عاش وخبر وخالط اللبنانيين على نحو كافٍ، ليخبرك أن هذه اللسانيات القاموسية تكاد أن تكون جزءاً من المفردات العادية التي تشغل الحيّز الاجتماعي والتداولي العام؛ مشافهةً ودلالةً وقصداً وتندّراً.
لدى بيروت، أيضاً، خصوصية مَدينية متقدّمة لازمتها تاريخياً. وتأسيساً عليها؛ فإن الحراك الثوري الأخير لا يضيف كثيراً إلى ثورية المدينة المُتحققة أصلاً، بل يرفع "حيزها العام" المُنفتح والحر والمتنوّع والمتقدّم على التحصينات إلى مستوى استعادة الإرادة السياسية المستلبة، واستعادة حقوقه في العيش بكرامة؛ منتفضاً في وجه من يسرق ماله ويوظف اقتصاده في الخصخصة والفساد والاحتكار وسياسات التجويع والتهجير.
حالة الانجلاق الذكوري وظاهرة التحرش الإلكتروني عن بعد، جزء من الحالة العربية الرجعيّة والمتخلفة. ولعل الحالة الثورية الحقيقية تستطيع، بالتراكم، تغيير زوايا النظر الدنيا عبر توسيع مجهر القضايا الكبرى. ذلك أن الجماهير- في هذا المستوى من النظر- كائنات مُتخيلة لا تجتمع إلا في أوقات التعبير عن دُونية الجماعة الإنسانية، وبدائيتها السابقة على العقل، والتفافها حول فراغات القيم.
لا تبدأ موجة الربيع العربي من جديد بقدر ما تُستأنف الآن عبر انتفاضاتٍ يكرس اللبنانيون، اليوم، واحدةً من نماذجها المبهجة والعابرة للطوائف والحسابات السياسية والتوازنات المجاورة. ولعلّ من مخرجات الهتاف في الشوارع: التنبيه إلى الوعي العميق بالقضايا الكبرى والمشتركة والوحدوية، ومنها خلق إجماع على فساد السلطة بجميع تشكيلاتها، وإيقاظ شعور عام تجاه فلسطين القضيّة لا الشعار، وتجاه قضايا الاستبداد والنكوص الثوري والكآبات المتصلة به لدى قطاعات كبيرة من الشباب العربي.
إن البذاءة التي تسكت عنها السيادة الرسمية وصرامة الوطن التهذيبية ينطق بها واقع الحال بوضوح جمعي ومُكاشَفة لازمة. إذ ليس ثمة مكان للوصاية والرقابة والحظر، ولا دور لمراجع سنية وشيعية سُلطوية، ولا لكنيسة كاثوليكية كتلك التي شكلت في منتصف القرن العشرين "فيلقَ الحِشمة الوطني" في الولايات المتحدة الأميركية، بغرض ضبط المحتوى السينمائي وحِراسته من مخرّبي "الوطن" ومنتهكي "الوطنية"، حيث يُصبح الفحش المُدعى والبذاءة التي تُصدّرها آلة السلطة كدعاية مُضادّة مُعادلًا للانفصال العام عن متواليات القمع والتخويف والرقابة باسم الوطن ومصالحه العليا.
أرز لبنان عالٍ، لكنه قد لا يموت "وقوفًا". إن الموت على نحو أفقي أكثر إنسانية ومطابقة لمتطلبات العيش في بلاد تضيق على رجالها ونسائها وأطفالها.
الشتيمة مستمرة، والواقع لا يصفو، والحراكات الثورية هكذا.
* شاعر من فلسطين