"حدث ذلك في صباح الخامس من آب عندَ السَّادسة. كنتُ قد أفقتُ قبل وقتٍ قصيرٍ وصعدتُ دونما تأخيرٍ إلى القارب؛ بضعُ ضرباتٍ من المجذاف دفعَتْني بعيداً عن حصى الشَّاطئ وتوقَّفتُ أسفلَ صخرةٍ عظيمةٍ لأحتمي بها من الشَّمسِ التي كانت تبزغُ آنذاك، مُنتفخةً بأُوارِ غضبها الجميل، وتحوِّلُ إلى ذهبٍ وزُرقةٍ نصاعةَ البحرِ الفجريِّ.
كنتُ أُنشِدُ الشِّعرَ عندما شعرتُ بهبوطٍ مُفاجئٍ لحافَّةِ القارب، ورائي، من جهة اليمين، كما لو أنَّ أحدهم تعلَّقَ هناك ليصعدَ. التفتُّ ورأيتُها: رأيتُ الوجهَ النَّاعمَ لفتاةٍ في السَّادسة عشرة من عمرها يخرجُ من البحر، ويدَين صغيرتين تمسكان بلوحٍ من ألواح القارب.
كانت تلك الفتاة تبتسم؛ ثنيةٌ خفيفةٌ كانت تُباعِدُ بين الشَّفتين الشَّاحبتين كاشفةً عن أسنانٍ صغيرةٍ بيضاءَ وحادَّةٍ، كأسنان الكلاب. ولكنَّها لم تكن ابتسامةً كتلك الابتسامات التي يراها بعضُكم على وجهِ بعضٍ، تلك الفاقدةِ أصالتها تحت تعبيرٍ عرَضيٍّ عن المحبَّةِ أو السُّخريةِ أو الشَّفقةِ أو الوحشيَّةِ أو أيِّ شيءٍ آخر؛ ابتسامتُها كانت تعبِّرُ عن ذاتها فحسب، كانت أشبه بانتشاءٍ حيوانيٍّ بالوجود، أو قُلْ أشبه بغبطةٍ إلهيَّة. كانت هذه الابتسامة أوَّلَ سحرٍ يفعلُ فِعلَه بي كاشفاً لي عن فراديس صفاءاتٍ منسيَّة. مِن الشَّعرِ المبعثَرِ الذي بلون الشَّمس كان ماءُ البحر يهمي على العينين الخضراوين المفتوحتين، وعلى كلِّ ملامحِ النَّقاء الطُّفوليِّ.
إنَّ عقولَنا المتوجِّسة، بقدْرِ ما هي متأهِّبة، تضطربُ أمامَ المعجزة وعندما تشعرُ بوقوعها فإنَّها تحاولُ أن تتَّكئ على آثار الظَّواهر التَّافهة؛ فمثل أيِّ شخصٍ آخر، أردتُ أن أصدِّق أنَّني صادفتُ سَبَّاحةً، ومتحرِّكاً بحذَرٍ، رفعتُ نفسي إليها، وانحنيتُ، مادَّاً يديَّ نحوَها لأساعدَها على الصُّعود. ولكنَّها، بشكيمةٍ باهرةٍ برزَتْ بجسدِها من الماء إلى مستوى خصرِها، وطوَّقَتْ عنقي بذراعَيها، ولفَّتني بغيمةِ عطرٍ لم أشُمَّ له مثيلاً قَطُّ، ثمَّ تركَتْ جسدَها ينزلق إلى داخل القارب: تحتَ مُنفرَج الفخذين، تحتَ الأرداف، كان جسدُها جسدَ سمكة، مكسوّاً بحراشف صغيرةٍ جدَّاً لؤلؤيَّةٍ وزرقاء، وينتهي بذيلٍ متشعِّبٍ راحَ يضربُ برفقٍ قعرَ القارب. لقد كانت سِيَرانة.
مُستلقيةً، وضعَتْ رأسَها على يديها المتقاطعتَين، كاشفةً بمُجونٍ وديعٍ عن الزَّغب النَّاعم تحت إبطيها، وعن ثديين مُتباعِدَين، وبطنٍ مثاليٍّ؛ وكان يتصاعدُ منها ما كنتُ أسميتُهُ عن هفوةِ لِسانٍ عطراً، وإنَّما هي رائحةُ بحرٍ سحريَّةٌ، وشهوةٍ غُلُوميَّة. كنَّا في الظِّلِّ، ولكن على بعدِ عشرين متراً منَّا كان السَّاحلُ يستسلمُ برمَّتِهِ للشَّمس ويرتجفُ من النَّشوة. جسدي العاري بالكامل تقريباً حاولَ عبثاً أن يواري عواطفَه.
تحدَّثَتْ، وهكذا بعدَ سحرِ الابتسامةِ وسحرِ العطر، وجدتُني مغموراً بالسِّحر الثَّالث الأعظم هَولاً، سحرِ الصَّوت. كان أبحَّ قليلاً، ومُضبَّباً، ويرنُّ بتوافقيَّاتٍ صوتيَّةٍ لا حصر لها؛ وفي عمق الكلمات المنطوقةِ عبْرَه كان من الممكن أن تشعرَ بالارتداد الخامل لأمواج بِحارٍ صيفيَّةٍ، وبحفيفِ آخرِ الزَّبَدِ على الشَّواطئ، وبمرور الأنسامِ على الموجاتِ الهلاليَّة".
* مقطع من قصَّةِ "السِّيَرانة"، من كتاب "القصص" لـ دي لامبيدوزا، يصدر قريباً عن "منشورات المتوسِّط"، بترجمة: أمارجي