لن تختلف مصائب السينما العربية، في عامٍ واحد، عن مصائب تعانيها منذ سنين. هذا واقع، يُقابِله نموٌّ واضح، وإن يكن بطيئاً، لإنجازاتٍ سينمائية تجديدية، تتوزّع على بقاع جغرافية في عالمٍ عربيّ، تزداد همومه ومآزقه ومنزلقاته وخيبات ناسه، يوماً تلو آخر. التجديد يواجه عفناً متفشياً في قطاعاتٍ سينمائية، معظمها تابعٌ لمؤسّسات رسمية، يُفترض بها أن تُعنى بحراكٍ سينمائيّ منفتح على تجارب العالم، فيكتسب من تلك التجارب ما يتلاءم وميزاته الخاصّة.
هذه سمة سينمائية عربية لعام 2017: أزمات تكشف مزيداً من انحلالٍ، يبدو كأنْ لا شفاء منه؛ ونتاجاتٍ تُبدع في ابتكار أشكالٍ تعبيرية تجديدية، وفي مقاربة أحوالٍ يسعى عفن السلطات إلى منع تناولها.
أسئلة الحرب الأهلية اللبنانية، مثلاً، يُراد لها النسيان. لكنها، بفضل إصرارٍ سينمائي وثقافي وأخلاقي وإنساني لدى البعض، تُصبح أفلاماً تخترق الممنوع، وتنقضّ على المحرَّم، وتقتحم أسوار التناسي، كي تكشف وتقول وتبوح وتطرح تساؤلات، محاولةً ـ في هذا كلّه ـ العثور على إجابات، أو طرح تساؤلات إضافية، من دون أي قيد أو شرط.
سطوة مؤسّسات إنتاجية، خاصة أو تابعة لأنظمة، تعمل على تجريدِ حراكٍ شبابيّ من كلّ إمكانية مواجهة وتنقيب وتعرية؛ في مقابل تنامي حراكٍ رافضٍ ومتمرّد، غير آبهٍ بسطوة أو قمع أو تغييب، وغير خانعٍ لأنظمة إنتاجية تشتغل على تثبيت العفن والانحلال في أعمالٍ عابقةٍ بفسادٍ واحتيالٍ وخرابٍ.
مهرجانات دولية في مدنٍ عربية تُلغى (مراكش المغربية)، بسبب صراعاتٍ دائرة إما بين "اجتماعٍ محليّ" وسيطرة غربيّة، وإما داخل البيت المغربيّ المعنيّ، مباشرة، بالمهرجان وتمويله؛ وأخرى تولد في بلدٍ خاضعٍ لسلطة التحالف الدائم بين العسكر والمال ورجال الأعمال ومروّجي السياحة (الجونة المصرية)؛ فتكاد ـ بهذا كلّه ـ تختفي السينما، كصناعة وتجارة واستثمارات، وكفن وجماليات وكشفٍ ومواجهات؛ من دون تناسي استثناءات جميلة ومهمّة، تمنح المُشارك فيها متعة المُشاهدة السينمائية.
فغياب مهرجان مراكش، تُقابله ولادة مهرجان الجونة. مهرجان دولي بقيادة فرنسية يتوقّف عن تنظيم دوراتٍ سنوية له، بعد تمكّنه من إثباتِ حضورٍ منفتح على العالم (ومنغلق على الداخل المغربيّ، تحديداً)؛ ومهرجان دولي بميزانية مصرية ينشأ في حيّز سياحيّ بحت، ويُراد له أن يجمع السياحة بالرفاهية، من خلال السينما. هذه مسائل تحتاج إلى نقاش أوسع، يبدأ من السؤال التالي: ما هو المهرجان السينمائي، بشكله ومضمونه، الذي تحتاج إليه دول عربية، بعضها منخرطٌ في صناعة السينما (مصر والمغرب)، وبعضها الآخر يحاول أن يعثر على موقعٍ له في تلك الصناعة (دول الخليج العربي، مثلاً)؟ وفرة المهرجانات المُقامة هنا وهناك، وتنوّعها وامتداداتها، دافعٌ إلى التساؤل عن مدى ضرورتها، بعد التساؤل عن مدى فاعليتها وتأثيراتها الإيجابية، خصوصاً أن مهرجانات قديمة (دمشق وقرطاج والقاهرة) غير نافعةٍ البتّة؛ في مقابل مهرجاناتٍ حديثة (دبي، مثلاً) تجتهد لانتزاع مكانةٍ لها في المشهد الدولي بأي ثمنٍ، رغم أقوالٍ مبثوثةٍ، في كل دورةٍ من دوراتها الأخيرة، حول استمراريتها.
هناك أيضاً النزاع، المبنيّ ـ بغالبيته الساحقة ـ على أحقادٍ (مُعلنة وخفيّة) بين أنصار نظام بشّار الأسد ومعارضيه، وهو نزاعٌ يحول دون القراءة النقدية الهادئة لأفلامٍ مغلّفة بجماليات الصورة، كما بلغتها وفنها وأدواتها، لكنها (الأفلام) مصنوعة بفضل النظام، ومن النظام وله. فالقراءة النقدية الهادئة تلك لن تتعامى عن مواقف تلك الأفلام وأصحابها، لأنها (القراءة) تهدف إلى تبيان مضامين متنوّعة، بعضها يُسقِط عن النظام مسؤوليته عن الجرائم المرتكبة بحقّ مدنيين، وبعضها الآخر يكشف "نقاءً" يستحيل وجوده في بلدٍ مُقيم في دماره منذ نحو 8 أعوام.
إخفاقات وتساؤلات كهذه لن تحجب إيجابيات العام المنصرم: أفلامٌ تمتلك جمالياتٍ مختلفة، وتطرح مسائل آنيّة تُصيب مسام الفرد وعلاقاته وأحواله وهواجسه، فتُشنّ على بعضها حملاتٍ يريد صانعوها منع التوغّل في الأسئلة كلّها، التي يُمكن لأي عربيّ أن يطرحها على نفسه، في زمن الانكسارات هذا. "شيخ جاكسون" للمصري عمرو سلامة، مثلٌ على ذلك. محاولته السينمائية لفهم بعض تناقضات الذات الفردية، إزاء أسئلة الإيمان والمزاج الشخصيّ والعلاقات المختلفة بالأهل والأصدقاء، ومشاعر الحبّ الأول، وغيرها؛ هذه المحاولة ـ بعد اختيارها لتمثيل مصر في التصفيات الأولى لـ"اللائحة القصيرة" لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، تصطدم ببلاغ مُقدَّم إلى النيابة العامة، بتهمة "ازدراء الدين الإسلاميّ".
هذا جزءٌ من واقع الحال السينمائي العربي. عناوين عامة يحتاج كلُّ واحدٍ منها إلى مزيدٍ من النقاش النقدي، لعلّ العام الجديد يُتيح تحقيقه، كجزءٍ من مواكبة حراكٍ تجديديّ، مُثير لمتع العين والقلب والروح.
اقــرأ أيضاً
أسئلة الحرب الأهلية اللبنانية، مثلاً، يُراد لها النسيان. لكنها، بفضل إصرارٍ سينمائي وثقافي وأخلاقي وإنساني لدى البعض، تُصبح أفلاماً تخترق الممنوع، وتنقضّ على المحرَّم، وتقتحم أسوار التناسي، كي تكشف وتقول وتبوح وتطرح تساؤلات، محاولةً ـ في هذا كلّه ـ العثور على إجابات، أو طرح تساؤلات إضافية، من دون أي قيد أو شرط.
سطوة مؤسّسات إنتاجية، خاصة أو تابعة لأنظمة، تعمل على تجريدِ حراكٍ شبابيّ من كلّ إمكانية مواجهة وتنقيب وتعرية؛ في مقابل تنامي حراكٍ رافضٍ ومتمرّد، غير آبهٍ بسطوة أو قمع أو تغييب، وغير خانعٍ لأنظمة إنتاجية تشتغل على تثبيت العفن والانحلال في أعمالٍ عابقةٍ بفسادٍ واحتيالٍ وخرابٍ.
مهرجانات دولية في مدنٍ عربية تُلغى (مراكش المغربية)، بسبب صراعاتٍ دائرة إما بين "اجتماعٍ محليّ" وسيطرة غربيّة، وإما داخل البيت المغربيّ المعنيّ، مباشرة، بالمهرجان وتمويله؛ وأخرى تولد في بلدٍ خاضعٍ لسلطة التحالف الدائم بين العسكر والمال ورجال الأعمال ومروّجي السياحة (الجونة المصرية)؛ فتكاد ـ بهذا كلّه ـ تختفي السينما، كصناعة وتجارة واستثمارات، وكفن وجماليات وكشفٍ ومواجهات؛ من دون تناسي استثناءات جميلة ومهمّة، تمنح المُشارك فيها متعة المُشاهدة السينمائية.
فغياب مهرجان مراكش، تُقابله ولادة مهرجان الجونة. مهرجان دولي بقيادة فرنسية يتوقّف عن تنظيم دوراتٍ سنوية له، بعد تمكّنه من إثباتِ حضورٍ منفتح على العالم (ومنغلق على الداخل المغربيّ، تحديداً)؛ ومهرجان دولي بميزانية مصرية ينشأ في حيّز سياحيّ بحت، ويُراد له أن يجمع السياحة بالرفاهية، من خلال السينما. هذه مسائل تحتاج إلى نقاش أوسع، يبدأ من السؤال التالي: ما هو المهرجان السينمائي، بشكله ومضمونه، الذي تحتاج إليه دول عربية، بعضها منخرطٌ في صناعة السينما (مصر والمغرب)، وبعضها الآخر يحاول أن يعثر على موقعٍ له في تلك الصناعة (دول الخليج العربي، مثلاً)؟ وفرة المهرجانات المُقامة هنا وهناك، وتنوّعها وامتداداتها، دافعٌ إلى التساؤل عن مدى ضرورتها، بعد التساؤل عن مدى فاعليتها وتأثيراتها الإيجابية، خصوصاً أن مهرجانات قديمة (دمشق وقرطاج والقاهرة) غير نافعةٍ البتّة؛ في مقابل مهرجاناتٍ حديثة (دبي، مثلاً) تجتهد لانتزاع مكانةٍ لها في المشهد الدولي بأي ثمنٍ، رغم أقوالٍ مبثوثةٍ، في كل دورةٍ من دوراتها الأخيرة، حول استمراريتها.
هناك أيضاً النزاع، المبنيّ ـ بغالبيته الساحقة ـ على أحقادٍ (مُعلنة وخفيّة) بين أنصار نظام بشّار الأسد ومعارضيه، وهو نزاعٌ يحول دون القراءة النقدية الهادئة لأفلامٍ مغلّفة بجماليات الصورة، كما بلغتها وفنها وأدواتها، لكنها (الأفلام) مصنوعة بفضل النظام، ومن النظام وله. فالقراءة النقدية الهادئة تلك لن تتعامى عن مواقف تلك الأفلام وأصحابها، لأنها (القراءة) تهدف إلى تبيان مضامين متنوّعة، بعضها يُسقِط عن النظام مسؤوليته عن الجرائم المرتكبة بحقّ مدنيين، وبعضها الآخر يكشف "نقاءً" يستحيل وجوده في بلدٍ مُقيم في دماره منذ نحو 8 أعوام.
إخفاقات وتساؤلات كهذه لن تحجب إيجابيات العام المنصرم: أفلامٌ تمتلك جمالياتٍ مختلفة، وتطرح مسائل آنيّة تُصيب مسام الفرد وعلاقاته وأحواله وهواجسه، فتُشنّ على بعضها حملاتٍ يريد صانعوها منع التوغّل في الأسئلة كلّها، التي يُمكن لأي عربيّ أن يطرحها على نفسه، في زمن الانكسارات هذا. "شيخ جاكسون" للمصري عمرو سلامة، مثلٌ على ذلك. محاولته السينمائية لفهم بعض تناقضات الذات الفردية، إزاء أسئلة الإيمان والمزاج الشخصيّ والعلاقات المختلفة بالأهل والأصدقاء، ومشاعر الحبّ الأول، وغيرها؛ هذه المحاولة ـ بعد اختيارها لتمثيل مصر في التصفيات الأولى لـ"اللائحة القصيرة" لجائزة "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، تصطدم ببلاغ مُقدَّم إلى النيابة العامة، بتهمة "ازدراء الدين الإسلاميّ".
هذا جزءٌ من واقع الحال السينمائي العربي. عناوين عامة يحتاج كلُّ واحدٍ منها إلى مزيدٍ من النقاش النقدي، لعلّ العام الجديد يُتيح تحقيقه، كجزءٍ من مواكبة حراكٍ تجديديّ، مُثير لمتع العين والقلب والروح.