كما يمرّ عشق الأدب عادة بقراءة القصص المصوّرة ثمّ القصيرة فالروايات الخفيفة، قبل بلوغ أمّهات الروايات وكتب الفكر، فإنّ لحبّ السينما سبلاً مألوفة، ولو أنّها تبدو أكثر تنوّعاً واختلافاً من حالةٍ إلى أخرى عن تلك التي تؤدّي إلى الأدب. مرجع ذلك التأثّر الكبير للسينما بتطوّر تقنيات صناعتها، وبالتقدّم التكنولوجي الذي يعرفه عالم السمعي البصري عامة، بما فيها الوسائط التي تعتبر منافِسة شرسة للسينما، ما يجعل مسألة اكتساب الـ"سينفيليا" تختلف من جيل إلى آخر، بحسب السياق والمرحلة اللذين تمرّ بهما صناعة السينما. هذا يترك أثراً كبيراً على شكل الـ"سينفيليا" نفسها، وصفاتها المميّزة.
هكذا مرّ الجيل الممتد من خمسينيات القرن الـ20 إلى سبعينياته بمحطّة نوادي السينما، التي كانت شبه إجبارية آنذاك بسبب انتشارها الكبير، وندرة العرض السينمائي الخارج عن السائد، في غياب وسائط أخرى، غير قاعة السينما، لمُشاهدة الأفلام. وبقدر ما كانت مُشاهدة هذه الأفلام المختلفة فرصة نادرة تقتضي أحياناً تحمّل عناء السفر مئات الكيلومترات ليحظى المرء بها، كان طقس مُشاهدتها ونقاشها يحظى بإقبال كبير، حتى في ساعات الصباح الأولى من نهاية الأسبوع، ويتميّز بنوعٍ من الهالة تكاد تلامس القدسية. هذا كلّه ـ بالإضافة إلى سياق سياسي يطبعه اصطفاف ذو طابع إيديولوجي شديد التقاطب ـ ساهم في تحوّل حصص النقاش التالية لعرض الأفلام إلى ساحة سجال حادّ وخصب، أتاح اكتساب معارف جمّة حول السينما والسياسة في آنٍ، رغم أنّ هذه الأخيرة كانت تطغى غالباً، بحكم نظرة سائدة آنذاك تختزل الأفلام في مضمونها وخطابها، وتعتبر تناول شكل الأفلام وتقنياتها وسردها نوعاً من التمسّح بالفكر البورجوازي، وخيانة لتوجّه الجماهير والطبقة العاملة، التي كانت تشكّل عصب نوادي السينما آنذاك.
هذا كلّه صنع "سينفيليا" ترى في قاعة السينما نوعاً من الامتداد للعالم ومرتكزه في آنٍ، إذ تعبّر كتابات أغلب النقّاد المنتمين إلى هذا الجيل عن رؤية تكاد ترى في الأفلام انعكاساً لصورة العالم بكلّ تعقيده السياسي والاجتماعي والثقافي، وخصوصاً وسيلة لصوغ خطاب يصبّ في طموح تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية، بما يناسب رؤيتهم وأفكارهم المثلى. فكرة عبّر إيتوري سكولا عن مآلها المرير في رائعته "آه كم أحببنا بعضنا" (1974).
بالتوازي مع بداية توفّر العرض السينمائي خارج القاعة، الذي انطلق مع انتشار التلفاز في السبعينيات الماضية، قبل أن يتطوّر ويتنوّع بدمقرطة جهاز قراءة الفيديو "في. أتش. أس." في الثمانينيات، بدأ دور القاعات السينمائية في صوغ الـ"سينفيليا" ينحسر شيئاً فشيئاً، لفائدة تَصَوّرٍ انتقل من الفضاء الجماعي والمجتمعي إلى الإطار العائلي، وتسارع مع انفجار العرض بوصول تقنية التقاط القنوات عبر الصحون اللاقطة في نهاية التسعينيات. هذا صنع جيلاً اقتفى حبّ السينما من خلال مفاتيح الفرجة العائلية، المتأثّرة بمدى انفتاح كلّ عائلة على حدة، ومستواها الفكري والثقافي.
لكنْ، هناك أنماط لا محيد عنها بدأت تتشكلّ منذ تلك الفترة، ولا يزال تأثيرها واضحاً حتى اليوم. منها مثلاً في السياق العربي: بداية اهتمام المتفرّج بنوع سينمائي معيّن، يندرج غالباً في خانة الأصناف السائدة مثل الميلودراما، أو الدراما الكوميدية، أو أفلام الحركة. هذا الاهتمام يقود بدوره إلى الافتتان بتوجّه معيّن داخل الصنف الكبير، يأخذ بعين الاعتبار هذه المرة تأثير الإعجاب بممثّل، على غرار ربط الدراما الكوميدية بالأفلام المصرية مع عادل إمام، وأفلام الحركة بتأثير سيلفستر ستالوني في السينما الأميركية.
توجّه يقود بدوره، وفق عملية انزياح من داخل عوالم الممثّلين إلى الاهتمام بنوع جديد، كأنْ يقود التركيز على مشاهدة أفلام عادل إمام إلى اللّقاء بـ"الحرّيف" (1983) لمحمد خان، وبالتالي الانفتاح على عوالم سينما أكثر واقعية والتصاقاً بالمجتمع؛ وأنْ يؤدي حبّ سلفستر ستالوني إلى دخول عوالم تود كوتشيف (مخرج "رامبو: الدم الأول"، 1982)، المفعم بالتجريب والخلق من داخل الأنواع السينمائية. ولعلّ هذه الخطوة الأخيرة ـ المتمثلة في الانتقال من المُشاهدة بناء على تفضيل الممثل والنوع إلى اختيار الأفلام انطلاقاً من حساسية الإخراج ومدارس الجماليات السينمائية ـ (الخطوة) حاسمة للتّحول من المُشاهدة الغزيرة غير الانتقائية (الـ"سينيفاجية" بتعبير الفرنسيين) إلى الـ"سينفيليا" الواعية بالسينما بثقلها الثقافي والجمالي. يُذكر أنّ متفرّجين كثيرين يقفون عندها، فيظلّون طيلة حياتهم يقرنون حبّهم للسينما بنوع معيّن، كالميلودراما الهندية، أو بفئة معينة من الممثلين، كستيفن سيغال، من دون أن ينتقلوا إلى الوعي بميكانيزمات الإخراج وأثرها الكبير على ما يشاهدون.
مع بزوغ الـ"إنترنت"، تلوّنت الـ"سينفيليا" بتوجّه مغرق في الفردية، خصوصاً أنّ السينما فَقَدت لقب الممارسة المرجعية التي تصوغ ذوق الشباب ومخيالهم لصالح وسائط أخرى، أهمها "ألعاب الفيديو". ورغم أنّ نقاش الأفلام وتداولها بشكل جماعي شهد بعض الانتعاش، ولو افتراضياً، بفضل المنتديات وغرف الدردشة، فإنّ السينما أضحت ممارسة فردية في العمق، ما طرح إشكالية لصيقة بوسيط "إنترنت"، وهي غياب خط تحريري يُحدّد أفق الاختيارات، ويشكّل مَعلماً للتوجّه وسط ضوضاء تضخّم عرض السينما، الذي تعزّز بآلاف الأفلام، والخطاب حول هذه الأخيرة وتنوّع مرجعياته مع ظهور أنماط جديدة، كالحديث عن السينما بشكل موغل في الذاتية في "بلوغات" وصفحات شخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تخصيص مواقع افتراضية لأفلام بعينها، عبر التنقيب في نوع من الـ"فتيشية" في دقائقها والظروف المحيطة بإنجازها، فيما يعرف بمجلات ثقافة "الغيك"، التي تجمع المهووسين بموضوع أو فيلم يتحقّق فيه شرط الإمعان في الكلاسيكية، إلى حدّ بلوغ مرتبة الفيلم ـ النّسك. وكذلك تطوّر أساليب جديدة، من قبيل كبسولات الفيديو التي ترتكز على جماليات الأمثلة والمقتطفات للحديث عن السينما ونظريّاتها.
ولعلّ أبرز إشكال يطرحه تضخّم الخطاب حول الأفلام في ظلّ "إنترنت" هو إحياء مشروعية الخطاب النقدي والـ"سينفيلي" الرزين، والتحدّيات التي يفرضها هذا، كتجديد الأساليب ومواكبة تطوّر أنماط المُشاهدة، المُتجسّدة خصوصاً في الهيمنة المتزايدة لمنصّات المُشاهدة المنزلية والشعبية المتنامية للمسلسلات. في حوار مهمّ يُنشر للمرّة الأولى على موقع الـ"سينماتيك" الفرنسية (عثر المنتج والمخرج الفرنسي فرنسوا مارغولان على شريطٍ مفقود سجّل عليه الحوار أثناء ترتيب أغراضه في فترة الحجر الصّحي)، عبّر الناقد الفرنسي الراحل سيرج دانيه، بحصافته المعروفة وقدرته الرؤيوية المُدهشة، عن بوادر هذه الإشكالية أواسط ثمانينيات القرن الماضي، بقوله: "نحن سجناء ثنائي يعمل بشكل جيد للغاية: المستهدِفون والمستهدَفون. إذا قال المستهدَفون: ليست هذه الأفلام التي نريدها، وإذا انتقدوا، يمكنهم كتابة هذه الانتقادات. لكنْ، ما هي إذاً قيمة كتابة شخص يقول: "أنا، في الحياة، أحبّ الكوميديا الموسيقية، أو أحبّ هذا الممثّل، والباقي لا يهمّني"؟ نحن هنا في إطار بريد القراء. (...) فجأة، ضاع منّا دليل الحقيقة، فأصبحنا في علاقة استهلاك، وفكرة أنْ يقوم شخص (أي النّاقد ـ المحرّر) على رؤوس الأشهاد ليهتف: ما أقوله يخاطب الجميع، فسينظر إليه إمّا كديماغوجي كبرنار تابي، أو خطيب في الصحراء كفيرنر هيرتزوغ".