التصريح المخالف تماماً لكل التصريحات الرسمية المصرية السابقة، التي أبدى فيها المسؤولون المصريون قلقهم وغضبهم من انسداد المسار التفاوضي، إلى حدّ تلويح البعض بخيارات عسكرية واحتمالات نشوب توترات عسكرية وقصف السد، أتى تطويراً لتصريح سابق أدلى به السيسي منذ أيام، أعرب فيه عن "اطمئنانه شخصياً من تعهدات إثيوبيا، وأنه يريد نقل نفس الاطمئنان للشعب المصري". ومن الواضح أن انعقاد الاجتماع الثلاثي كان هدفاً في حد ذاته، وفقاً لمصدر دبلوماسي مصري، في ظل تعثر المفاوضات حول السد، وتردّي العلاقات الثنائية بين مصر والسودان لأسوأ أحوالها منذ منتصف التسعينيات، واستدعاء الخرطوم سفيرها لدى القاهرة، ورفض إثيوبيا المقترح المصري لدخول البنك الدولي طرفاً في المفاوضات حول السد للتحكيم بين مصر من جهة وإثيوبيا والسودان من جهة ثانية في الخلاف حول التقارير الفنية التي أعدتها المكاتب المتخصصة، وكذلك بسبب المعلومات التي ترددت الشهر الماضي في وسائل الإعلام السودانية والإثيوبية عن التواجد المصري المسلح في إريتريا، ثم زيارة الرئيس الإريتري أسياس أفورقي للقاهرة.
هذا التصعيد الاستراتيجي والسياسي الصامت بين الدول الثلاث، أضفى أهمية استثنائية على الاجتماع الثلاثي، ومن قبله بثمانية أيام على زيارة ديسالين للقاهرة، حتى بعد اختصارها وإلغاء بعض جوانبها مثل إلقائه خطاباً أمام مجلس النواب المصري، وحتى بعدما أعلن ديسالين صراحة لدى عودته لبلاده رفض دخول البنك الدولي على خط المفاوضات، وعدم قبوله وجود "طرف للتحكيم".
وأوضح مصدر مصري مطّلع لـ"العربي الجديد"، أن "الاجتماع عقد بصيغة غير مسبوقة، وغريبة بعض الشيء، بحضور وزراء الخارجية والسفراء المختصين وبعض مديري أجهزة الاستخبارات والأمن بالدول الثلاث، ما أضفى على الاجتماع صبغة احتفالية بإتمامه في الأساس. كما سيطرت عليه روح الدعابة والمجاملات وتسويف حلحلة الأزمات العالقة، وبصفة خاصة بشأن الخلاف المصري - الإثيوبي - السوداني حول التقارير الفنية، التي أكدت الأثر السلبي الكبير على حصة مصر المائية طوال فترة الملء الأول لخزان السد، فضلاً عن الخلاف المصري - الإثيوبي حول طريقة إدارة تلك الفترة".
وأضاف المصدر أنه "تم الاتفاق على إجراءات عدة لتحسين مناخ التفاوض وتسريعه، أولها تشكيل لجنة وزارية سداسية (تضم وزراء الخارجية والري بالدول الثلاث) للتنسيق بصفة مستمرة على مدار شهر واحد فقط، لتحديد المشاكل العالقة في التقارير الفنية وإعادة بحثها والتوصل لصيغة محددة لحلها، وذلك من دون أي تدخل من أطراف أخرى سواء البنك الدولي أو غيره. وبذلك تكون مصر قد رضخت للرفض الإثيو-سوداني لذلك المقترح، ولم يتناول الاجتماع مسألة ترشيح إثيوبيا والسودان أي جهات أخرى للتحكيم، الأمر الذي كان قد أثاره من قبل السيسي وديسالين في القاهرة".
وتابع "كما تم الاتفاق على تشكيل لجنة فنية ـ قانونية لإعادة تحليل اتفاق المبادئ الذي تم إبرامه في مارس/ آذار 2015، وكذلك إعادة تحليل الدراسات الفنية التي تم إنجازها حتى الآن، للمشاركة في صياغة الحلول النهائية التي تضمن لكل طرف حقوقه المائية كاملة. كما تم الاتفاق أيضاً على أن يعمل وزراء الخارجية في الدول الثلاث على دراسة أفضل البدائل التي من الممكن اتباعها لتحويل مشروع سد النهضة لمصدر تنمية ورخاء للدول الثلاث"، ما فتح المجال لاحتمال التباحث الجاد حول الفكرة التي طرحها ديسالين للمرة الأولى في يوليو/ تموز 2016، من دون مناقشتها بشكل واسع في اجتماعات اللجان الثنائية السابقة، وهي إمكانية استفادة مصر من السد اقتصادياً من خلال مساهمتها في إنتاج الكهرباء، كما هو الحال بالنسبة للإسرائيليين في بعض محطات الإنتاج الإثيوبية، أو تساهم في استصلاح واستزراع الأراضي الجديدة التي ستستفيد من عمل السد لعلاج الفجوة الغذائية التي يعاني منها الاقتصاد المصري. مع العلم أن هذا الحل يلقى ترحيباً من إسرائيل التي كان السيسي يحاول استغلال علاقتها الجيدة بالحكومة الإثيوبية لمنع الإضرار بالمصالح المصرية، في فترة ماضية.
وكان مسؤولون مصريون قد عبروا سابقاً عن تخوفهم من حل "الاستثمار مقابل المياه" حول قدرة الحكومة الإثيوبية على توفير المناخ الملائم للاستثمارات المصرية، في ظل وجود شكاوى من المستثمرين المصريين العاملين هناك من ضعف الحوافز وتعقيد الإجراءات وفرض بعض القيود على استيراد الخامات من مصر، فضلاً عن احتياج هذا الحل لبنية تحتية قوية لا تتوافر حالياً في إثيوبيا، إلى جانب عدم معالجة هذا المقترح للمخاوف المصرية من التأثير السلبي لفترة الملء الأول لخزان السد على حصة مصر من المياه.
وكشف المصدر أيضاً أن "الرؤساء الثلاثة ناقشوا بشكل موسع ما وصفه السيسي حرفياً بالفوضى الإعلامية، محذراً من الآثار السلبية التي تعكسها المعالجات الإعلامية الإثارية على العلاقات الدولية. وحمّل البشير وديسالين المسؤولية عن الهجوم الذي تشنه بعض وسائل الإعلام في الدولتين على مصر، مستطرداً أن معظم مشاكلنا مع السودان بسبب الإعلام، ولذلك نريد إعلاماً أكثر مسؤولية وهدواً".
وبدا أن تعليق المشاكل على "شمّاعة" الإعلام كان العنوان الرئيسي للمحادثات التي عقدها السيسي مع البشير ثنائياً، السبت الماضي، والتي اعتُبرت الأهم على هامش القمة الأفريقية، وهي التي مهدت الطريق لعقد القمة الثلاثية، متوجة عملاً استغرق أسبوعاً بين وزيري خارجية البلدين سامح شكري وإبراهيم غندور.
ولفت المصدر المصري إلى أنه "إلى جانب الاتفاق المبدئي بين السيسي والبشير على عودة السفير السوداني للقاهرة قريباً، وتشكيل لجنة وزارية - استخباراتية لبحث المشاكل التي أدت لهذا المنعرج الخطير في العلاقات الثنائية، اتفق الطرفان أيضاً على أن تشهد الفترة المقبلة تهدئة إعلامية ومحاولة للسيطرة على الشائعات التي تتصاعد وتستخدم على نطاق واسع بمواقع التواصل الاجتماعي بل وتتلقفها وكالات الأنباء العالمية".
وأكد المصدر أن "مباحثات السيسي والبشير لم تنفذ لعمق أي مشكلة ثنائية مؤثرة، سواء حلايب وشلاتين، أو تنامي العلاقات السودانية - التركية، أو الاتهامات السودانية السابقة للقاهرة بالضلوع في محاولات انقلابية على نظام البشير، بل تم التباحث بشكل عام حول قضية سد النهضة وضرورة التقارب المصري السوداني حفاظاً على التبادل التجاري ومشاريع التنمية المشتركة، إلى جانب الاتفاق على وقف تراشق التصريحات بين البلدين على الأقل لحين حسم مشاكل سد النهضة".
وكانت العلاقات بين البلدين قد ساءت في الفترة الأخيرة بسبب ربط مسألة حلايب وشلاتين بالميل التدريجي السوداني نحو الموقف الإثيوبي، وتطور العلاقة الثنائية بين الدولتين إلى حد إجراء محادثات ثنائية بشأن تأمين السد وكيفية استفادة السودان منه تنموياً، وعدم تعرض السودان لنقص حاد في المياه بسبب السد نظراً لتنوع مصادرها المائية وانخفاض عدد سكانها بالنسبة لمصر، وهو ما يجعل القاهرة عملياً وحيدة في موقفها المعارض لمسار التفاوض البطيء.