في الوقت الذي تعمّد فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تخفيف حدّة نبرته التصعيدية بشأن التدخل العسكري المباشر في ليبيا، حرص على اتخاذ جميع الإجراءات الدستورية التي لا تجعله محتاجاً في المستقبل للعودة إلى البرلمان لاستيفاء الاستحقاقات المقررة في المادة 152 من الدستور. فالموافقة التي منحها مجلس النواب لإرسال "عناصر من القوات المسلحة" خارج البلاد لحماية الأمن القومي "بالاتجاه الاستراتيجي الغربي"، تعتبر بمثابة "إقرار على بياض" بحق السيسي في أي وقت لاستخدام تلك الموافقة في إرسال عناصر عسكرية مصرية. ويمكن للرئيس المصري استخدام هذا الإقرار، سواء في صورة تنفيذ عمليات محدودة جوية وبحرية واستطلاعية كالتي تنفذها مصر فعلياً، أو في توسيع تلك العمليات لتشمل عناصر من القوات البرية والدفاع الجوي وغيرها من الأفرع التي تستلزم تواجداً ميدانياً، أو إذا حدث ما لا تتوقعه المصادر السياسية والعسكرية في مصر وكذلك المحللون في الإقليم والعالم بدخول مصر وكيلة عن الإمارات والسعودية حرباً حقيقية ضد تركيا على الأراضي الليبية. وتعيد هذه الموافقة البرلمانية إلى الأذهان موافقة مجلس النواب عام 2015 على إرسال عناصر من القوات المسلحة للمشاركة في عملية "عاصفة الحزم" في اليمن، بحجة "الدفاع عن أمن مصر الاستراتيجي بمنطقة باب المندب"، والتي لم يفعّلها السيسي بصورة حقيقية كما كانت تتمنى السعودية آنذاك. لكن تلك الموافقة التي ما زالت سارية المفعول، تسمح للسيسي باستخدامها في أي وقت من دون الاضطرار لاتخاذ نفس الإجراءات. وعلى هامش الاعتبارات السياسية والعسكرية لتعامل السيسي مع القضية الليبية؛ فإن هذا النوع من الموافقات البرلمانية، محاط بالكثير من الشكوك الدستورية والمشروعية، فالنص الدستوري يتحدث عن "إرسال القوات المسلحة في مهمة قتالية إلى خارج حدود الدولة"، بما يعني أن تكون هذه المهمة محددة وموجّهة لمكان محدد وفي توقيت محدد، عكس ما حدث في اليمن عام 2015 وما يحدث في الشأن الليبي حالياً. ويعكس هذا سياسة السيسي الدائمة للالتفاف على نصوص الدستور وتطويعها لخدمة أهدافه والتخفيف من القيود الإجرائية المنصوص عليها.
حصل السيسي على تفويض البرلمان للانخراط في حرب اليمن عام 2015
أما من الناحية السياسية داخلياً؛ فقد جاءت موافقة البرلمان، مصحوبة بترويج إعلامي مكثف لفكرة "التفويض" التي يحب السيسي على المستوى الشخصي والمؤسسي الاستناد إليها، كما حدث في يوليو/تموز 2013 عندما طالب في خطاب شهير الشعب المصري بالنزول للشوارع وإعطائه "أمراً وتفويضاً لمحاربة الإرهاب". وهو ما استغله لاحقاً لارتكاب مجزرتي فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة في 14 أغسطس/آب 2013. وبحسب الرواية الرسمية المصرية، فقد فوّض الليبيون، ممثلين في مجلس النواب بطبرق وشيوخ القبائل الذين استضافهم في القاهرة يوم الخميس الماضي، السيسي، وكذلك فعل المصريون الممثلين في مجلس النواب، بغرض "حماية الأمن القومي للدولتين من خطر المستعمر التركي والمليشيات الإرهابية المتطرفة (المقصود بها قوات حكومة الوفاق)"، على حد وصف بعض المؤسسات والشخصيات المصرية.
ولكن مع ارتفاع وتيرة الترويج لفكرتي التفويض والاستعداد لدخول المعركة، أخذت تصريحات مؤسسة الرئاسة والمسؤولين التنفيذيين والنواب منحى آخر، مفاده أن التفويض يستهدف الاستعداد للقتال "عند الحاجة"، وأنه في الحقيقة توكيل للسيسي لاتخاذ ما يشاء من قرارات، سواء بالتصعيد العسكري أو باتباع الطرق السياسية والدبلوماسية. وخلال الأيام الثلاثة الماضية تعمّدت المخابرات العامة بث تلك الرسائل المتنوعة بين "الاستعداد للحرب المباشرة، والتفويض لاتخاذ القرار المناسب سواء بالحرب أو السلم، والدخول الأكيد لليبيا حال تجاوز الخطوط الحمراء" في وسائل الإعلام التابعة لها، لتحقيق عدة أهداف. أول تلك الأهداف، استمرار استنفار الجبهة الداخلية وإشعار المواطنين بأن البلاد مقبلة على حرب تستدعي الاصطفاف والوقوف خلف رجل واحد هو "القائد البطل رئيس الجمهورية"، كما وصفه وزير الأوقاف محمد مختار جمعة. وهي حالة يتعمّد النظام إشاعتها دائماً منذ صعود السيسي للسلطة وتكوين دوائره ومؤسساته، لتبرير سوء الأوضاع الاقتصادية وعدم تحقيق الوعود الإصلاحية والعصف بالحريات وقمع الأصوات المعارضة، تحديداً على مواقع التواصل الاجتماعي. أما الهدف الثاني فهو عدم ظهور السيسي في صورة المتراجع عن العمل العسكري تحت وطأة التأثيرات الأجنبية، تحديداً بعد الترويج الواسع للحرب في وسائل الإعلام الموالية للسلطة منذ شهر تقريباً، بعد طرح السيسي مسألة الخط الأحمر لمحور سرت - الجفرة. أما الهدف الثالث فموجّه للخارج، بالسعي في الأساس لانتزاع أوراق أكثر من القوى العظمى، تحديداً من الولايات المتحدة، للضغط على تركيا بغية تثبيت الأوضاع على الساحة العسكرية وإنقاذ مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر من خسائر إضافية، ريثما يتم تجهيز جيش بديل، كما لمّح السيسي نفسه في خطابه أمام شيوخ القبائل، أو تحسين أوضاع حفتر على الأرض، أو الوصول إلى اتفاق نهائي بشأن المقترحات الأميركية والروسية والأوروبية المتداولة، ومنها إنشاء منطقة عازلة بين شرق ليبيا وغربها وإيجاد وضع خاص للمثلث النفطي، وغيرها من الأطروحات التي تمنع اندلاع الحرب. وتشير مصادر حكومية ودبلوماسية مصرية، تحدثت لـ"العربي الجديد"، إلى أن هناك أموراً أخرى تجعل من المستحيل اندلاع حرب، أو إرسال عناصر عسكرية مصرية بكثافة إلى ليبيا، أبرزها سوء الأوضاع الاقتصادية ليس في مصر وحدها بل في المنطقة والعالم، وعدم وجود تمويل من الإمارات والسعودية لعملية واسعة قد تشكل مخاطرة، وكذلك فإن مصر من الأساس مهتمة بالأزمة الليبية ليس بسبب عمقها الاستراتيجي الغربي وحسب، بل لتعلق الأمر ببحثها عن مصادر دخل مستدامة ومستقرة مثل حقول الغاز البحرية والاشتراك في عمليات إعادة تأهيل حقول النفط الليبية مع شركاء فرنسيين وإيطاليين. وهذا الهدف في الواقع يقتضي الحفاظ على الموارد بدلاً من إهدارها.
الصوت الأعلى داخل الأجهزة المصرية إزاء التحرك الميداني داخل ليبيا، يرجح اتخاذ إجراءات نوعية عن بعد
وسبق أن كشفت المصادر ذاتها لـ"العربي الجديد" قبل اجتماع السيسي بشيوخ القبائل، أن الصوت الأعلى داخل الأجهزة المصرية إزاء التحرك الميداني داخل ليبيا، يرجح اتخاذ إجراءات نوعية عن بعد، بما يحافظ على مسافة تمنع استنزاف قدرات وطاقات الجيش المصري في أرض جديدة عليه كلياً، وفي ظروف غير مسبوقة، فضلاً عن التكلفة الاقتصادية الباهظة التي يمكن تكبدها في تلك المغامرة غير المحسوبة. وتتطابق هذه الأصوات، ومنها شخصيات في المجلس الأعلى للقوات المسلحة والمخابرات والخارجية وبعض الدوائر الأخرى، مع تقارير تقدير موقف عديدة قُدمت إلى السيسي الشهر الماضي حول الأزمة الليبية، وقد أوصى أحدها بإنشاء قاعدة عسكرية مصرية في شرق ليبيا لضمان استمرار مراقبة الجيش المصري عن قرب للأوضاع الميدانية، وعدم الزج بأعداد كبيرة من القوات، مع التوسع في تدريب أفراد القبائل الليبية والبدء في تكوين جيش ليبي كبير موال لمصر تكون نواته مليشيات حفتر. وبالتزامن مع الضغوط الأميركية المكثفة لمنع تفاقم الأوضاع في ليبيا؛ أعلن مجلس الدفاع الوطني برئاسة السيسي الأحد الماضي عن "التزام مصر بالحل السياسي كسبيل لإنهاء الأزمة الليبية"، وأنها "تسعى لتثبيت الموقف الميداني الراهن وعدم تجاوز الخطوط المعلنة، بهدف إحلال السلام بين جميع الفرقاء والأطراف الليبية" من دون ذكر التدخل العسكري من قريب أو بعيد. وتكرر الأمر في بيان الرئاسة المصرية أول من أمس الاثنين، في الاتصال بين السيسي والرئيس الأميركي دونالد ترامب. وبحسب بيان الرئاسة فإن السيسي "استعرض موقف مصر الاستراتيجي الثابت تجاه القضية الليبية، والهادف إلى استعادة توازن أركان الدولة والحفاظ على مؤسساتها الوطنية، ومنع المزيد من تدهور الأوضاع الأمنية، وذلك بتقويض التدخلات الأجنبية غير المشروعة في الشأن الليبي، التي لم تزد القضية إلا تعقيداً وتصعيداً حتى باتت تداعيات الأزمة تؤثر على الأمن والاستقرار الإقليمي بأسره". في المقابل، كان البيان الأميركي مقتضباً وأكثر تركيزاً ووضوحاً حول "ضرورة فرض وقف شامل لإطلاق النار، وتحقيق تقدم في مسارات التفاوض السياسية والاقتصادية".