السيرك القومي وقفص الستينيات

29 يناير 2015
نذير تنبولي / مصر
+ الخط -

بدأ السيرك المصري مستقلًا، ويبدو أن الاستقلال خياره الوحيد للبقاء. في السنوات الأخيرة، تدهور حال السيرك القومي (التابع لوزارة الثقافة) حتى بات عجوزاً مثل سحرته ومهرّجيه، مثل أسوده المسلسلة أثناء أداء العرض. أسود شائخة وعاجزة، تبدو صورة مجسّدة لعجز الدولة المصرية ومؤسساتها الثقافية.

عام 1869، تكوّنت أول فرقة للسيرك، وظلّت تعمل بشكل مستقل حتى قامت ثورة يوليو. بعدها قرر عبد الناصر عام 1962 تأسيس مدرسة لتعليم هذه الفنون، ليدخل "فن البهجة" تحت سقف الدولة الكئيبة، ويبقى تحتها إلى الأبد.

المُشاهد للسيرك اليوم، يلاحظ بقاءه في سنوات الستينيات التي انتهت (أم لم تنته؟). لم تتحرك فقرات المهرج والساحر والحبل خطوة إلى الأمام، فيما تحولت فقرة الأسود إلى فقرة بائسة، فقرة رعب بدلاً من التسلية. رعب لا يأتي من أداء الأسود الشائخة، بل من مدرّبها الذي ينتقل رعبه من الأسود إلى الجمهور، فيفقدون متعتهم.

أسود مسلسلة في أسياخ حديدية، تتحرك بحركات محسوبة ومسافة محددة، فيما يحرّك المدرّب طوقه بعينيه على الحيوان "المفترس" لا على الجمهور. مشهد قديم، مثير للشفقة، أكثر من الفقرات الأخرى التي جار عليها الزمن، دون أن يخبر أحد الأبطال بأن الزمن قد تجاوزهم وأنهم أصبحوا خارج التاريخ.

أزمات السيرك القومي قديمة ومتجددة، ما بين محاولة نقله إلى حي 6 أكتوبر النائي، وبين أزمات مكافآت اللاعبين ومطالبهم بتحسين ظروفهم المعيشية، وبين إهمال المؤسسة الثقافية لهم. كل ذلك دفع بعضهم إلى هجره، والعودة إلى سيرك مستقل، وتنظيم فقرات أكثر حيوية، بعيداً عن البيروقراطية الحكومية والمدرّبين القدامى الذين لم يعد بوسعهم تقديم جديد فأصبحوا محالين على المعاش رغم وجودهم داخل الحلبة.

السيرك المستقل أطلق على نفسه اسم "السيرك العالمي"، استعانت فيه عائلة الحلو بلاعبين مهرة، سافروا وتدرّبوا في الخارج وعادوا بخبرات جديدة تفوق بسنوات لاعبي السيرك القومي الذين قرروا، أو فُرض عليهم، الولاء لفترة الستينيات، ليس سياسياً، بل أدائياً، وهو ما يشترك فيه مع بقية مؤسسات الدولة. في المقابل، تنهض المؤسسات المستقلة بمفردها، لتقدم ثقافةً جديدة، ومهارات مختلفة.

لا يمثّل انهيار السيرك القومي إلا حلقة في سلسلة طويلة من الانهيارات الثقافية، لكنها ربما الحلقة الأكثر لفتاً لعامة الشعب.

المواطنون البسطاء، الذين من حقهم البهجة والتسلية، فقدوا متعتهم في هذا السيرك، كما فقدوا من قبل فرصتهم في سينما قومية تعمل على تربيتهم جمالياً، ومسرح قومي يسخر من أزماتهم فيضحكهم. ولم يبق لهم إلا "السيرك العالمي" والسينما المستقلة والفِرَق المسرحية المستقلة.

ورغم أن ذلك يبدو مؤسفاً، إلا أن استقلال هذه الفنون عن الدولة يخلق هامشاً من الحرية. هامش تحاربه الدولة، لكنه سيستمر. سيستمر لأن الحياة لا يمكن أن تقف عند حقبة الستينيات، ولأن الاستقلال خيار أوحد للبقاء.

دلالات
المساهمون