15 نوفمبر 2024
السياق الأوسع للتطرّف والإرهاب
إذا كان من رسالةٍ بَيِّنَةٍ أعادت عملية نيويورك الإرهابية تأكيدها قبل أيام قليلة، فإنها ستكون أن "داعش" قد ينتهي بوصفه تنظيما متماسكا، لكن فكره المنحرف، على الأغلب، سيبقى للأسف، ذلك أن مسبباته لا زالت قائمة، والتربة التي تنبت زرعه المُرَّ لا زالت خصبة. شهدت الأشهر الأخيرة انكفاءً ملحوظا لـ"داعش" في العراق وسورية، حيث خسر معظم الأراضي التي سيطر عليها في السنوات الماضية، وخصوصا مدينة الموصل في العراق، وعاصمته في مدينة الرقة السورية. ومن المتوقع، في الأسابيع والأشهر المقبلة، أن تستمر خسائر التنظيم إلى الحد الذي يتحول فيه إلى عصاباتٍ مشتتةٍ ومطاردة، بل وربما متصارعةٍ بينها، بعد أن يفقد ما تبقى في أيديه من أراض قليلة. وعلى الرغم من ذلك، فإن شراسة هجمات التنظيم، ومن يمارسون العنف والإرهاب باسمه، لا زالت مستمرة، وستبقى. بل إنها قد تزداد شراسةً، ذلك أن "داعش"، كما تنظيمه الأم، القاعدة، هما حالة أكثر منهما تنظيمين، وهما تعبير عن معضلةٍ مزمنةٍ في "العالم الإسلامي"، لا يمكن حلها عسكريا وأمنيا فحسب.
الإدانة المطلقة للفكر والنهج الذي يمثله "داعش"، وغيره من التنظيمات العنفية المتطرّفة لا ينبغي أبدا أن تحجب رؤيتنا عن الخلفيات المُؤَسِّسَةِ لها. أيضا، فإن إدانتنا هذا الفكر المنحرف، وضرورة تصدّينا له، لا ينبغي أبدا أن يكون منطلقها رفض الغرب له، وتحميل الإسلام والمسلمين وزره. بل إن رفضنا هذا الفكر المتطرّف ضرورة وجودية لنا اليوم، حيث يُراد لخياراتنا كأمة، عربية أو إسلامية، أن تكون رهينة ثنائيةٍ لا تقل إحداهما سوءا عن الأخرى: إما الدكتاتورية أو الإرهاب. إنها اللعبة نفسها التي حُبِكَتْ من قبل، وذلك عندما وضعنا أمام خياريِّ: الاستبداد أو الفوضى، في حين أن أي قراءة متأنِّيَةٍ ستوصلنا إلى نتيجة واحدة: الاستبداد هو صنو الفوضى، والعدوان هو صنو الإرهاب. إنها معطيات ومتغيرات يغذّي أحدها الآخر، ويسوّغ أحدها الآخر. ونحن إن لم ننجح في كسر هذه الدائرة الشريرة المغلقة، سنبقى ندور في أتونها حتى نفنى كأمة.
في الخلفيات المُؤَسِّسَةِ، لابد من الاعتراف بأن ثمّة فقها متطرّفا نما عبر عقود، بل وقرونٍ
طويلة، غير أنه لم يكن يوماً سائدا، ويستبعد أن يسود مستقبلا. لكن هذا الفقه المتطرّف لا ينساح في فراغ، وإنما يكون، عادة، نتاج أوضاع سياسية واجتماعية مضطربة. هذا ما جرى، في الغالب، منذ بروز الخوارج تعبيرا عن أزمة ما عرفت في التاريخ الإسلامي بـ"الفتنة الكبرى" بين الصحابة في صدر الإسلام الأول. وإذا ما قمنا بعملية إسقاط هنا، فإن السؤال يكون: لماذا تلجأ تيارات تتلفع بلبوس الإسلام إلى فقه متطرّف اليوم؟ تتمثل الإجابة ببساطة في أن الأمة المسلمة تعيش أوضاعا مضطربة غير عادية، جعلت من مناعتها ضد الأخطار الخارجية، أو التحديات الداخلية، ضعيفة إن لم تكن معدومة. ترى تلك التيارات وأولئك الأفراد من أتباع الفقه المتطرّف أن الأمة المسلمة لا تملك تمثيلا مشروعا، عزيزا، ذا منعةٍ في وجه عدوانٍ خارجي أو تسلط داخلي، فيتوهمون أنهم وحدهم المؤهلون لملء الفراغ. إنهم ينطلقون من منطق الوصاية، تماما كما أنظمة الجورِ، على شعوب الأمة المسلمة. وهم في سياق الوَهْمِ هذا يقومون بتدمير للهوية الجَمَعِيَةِ للأمة المسلمة، سواء عبر تشويه هذه الهوية، وربطها بالتطرّف والإرهاب، أم عبر جَرِّ الأمة، ربما ضمن تخطيط أجنبي أحيانا، إلى معارك كبرى لا يمكن أن تنتصر فيها. وعملياً، تتماهى أنظمة الجورِ وهذه التيارات المتطرّفة في نخر عود الأمة جَمَعِيّاً، فكلاهما يتخبط ضمن منظومة رعناء بلا رؤية، ولا مشروع.
ما يزيد في تعقيد المشكلة ذلك الصراع على روحِ الإسلام بين هذه التيارات وبعض الأنظمة القمعية، من حيث ينقض كلاهما رسالة الإسلام وكينونته. فإذا كانت التيارات العنفية المتطرّفة تجعل من الإسلام، ضمن رؤيتها المنحرفة وممارستها الضالة، سلاح إجرام، فإن كثيرا من الأنظمة الرسمية الدكتاتورية، إما أنها تؤمم فضاء الدين لتسويغ قمعها وتسلطها، وكذلك إجرامها، أو أنها تتاجر فيه لمصالح ضيقة، وذلك كما فعل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قبل نحو أسبوعين عندما أعلن أن المملكة ستعود "إلى الإسلام المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان". مضيفا: "لن نضيع ثلاثين عاما أخرى في التعامل مع الأفكار المتطرّفة، سنراهن على الإسلام المعتدل المنفتح على الثقافات". ما لم يقله ابن سلمان هنا أن المملكة تاجرت بـ"الأفكار المتطرّفة" في الثلاثين سنة الماضية، ولأن تلك التجارة قد كسدت، فإن المملكة تسعى اليوم إلى تغيير عملة التجارة أو سلعتها، وهي مقاربة الإسلام هنا. إذن، ليست المشكلة في الإسلام، وإنما في كيفية محاولات توظيفه.
ينسحب المنطق نفسه على تصريحات سابقة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عام
2015، عندما دعا إلى ما وصفها ثورة دينية للتخلص من أفكار ونصوص تم تقديسها قرونا، وباتت مصدر قلق للعالم. وقال: إنه "ليس معقولا أن يكون الفكر الذي نقدسه على مئات السنين يدفع الأمة بكاملها إلى القلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها". مضيفا: إن هذا الفكر "يعني أن 1.6 مليار (مسلم) حيقتلوا الدنيا كلها التي يعيش فيها سبعة مليارات عشان يعيشوا هم". طبعا، يغفل السيسي، متعمدا، هنا، أن القتل والتدمير حرفة للأنظمة الرسمية، كنظامه. وأن الأنظمة القمعية أحد أهم أسباب تخلف الأمة العربية وشعوب إسلامية كثيرة. كما يغفل السيسي أن تيارات العنف، تمثل، إلى حد كبير، ردّ فعل على تسلط تلك الأنظمة وفشلها في التصدّي للتحديات الداخلية والأخطار الخارجية، خصوصا العدوان العسكري الأجنبي على "عالم الإسلام"، والخضوع الذليل لتلك القوى الأجنبية. ليست مشكلة العالم في 1.6 مليار مسلم "حيقتلوا الدنيا" بقدر ما أنها في 1.6 مليار إنسان يعيش أغلبهم مقموعين مهمشين، وفي ذيل الأمم الأخرى، تحت أنظمة فاشلة قمعية، وعدوان خارجي.
باختصار، فإن الفقه المتطرّف، أو "الأفكار المتطرفة"، إذا استخدمنا تعبير ولي العهد السعودي، و"الفكر الذي نقدّسه" و"يدفع الأمة بكاملها" لقتل وتدمير "الدنيا كلها"، بتعبير السيسي، ما كان ليكون لها هذا الحضور لولا مساهمتهم هم، ومن على شاكلتهم، في تصنيعها. هذا الفقه المتطرّف، أو "الأفكار المتطرّفة" كانا دوما موجودين، لكنهما كانا غير مُفَعَّلينِ. وما دفعهما إلى الأعلى هي المعطيات على الأرض، لا نفض الغبار عن مدوّنات فقهية مغمورة، أو إعادة استحضار عقليات ونماذج تاريخية بَلِيَت. إنها ذلك الخليط المسموم ما بين فكر مأزوم وفقه متطرّف، وقمع وفشل داخلي، ومحاربة للتيارات الإسلامية المعتدلة ومحاولة توظيف الدين لتسويغ الطغيان، وهزيمة وخضوع للعدو الخارجي وعدوانه. بعد ذلك كله، ما الذي نتوقعه غير ما نراه.. بل وأسوأ قد يكون قادما في الطريق.
الإدانة المطلقة للفكر والنهج الذي يمثله "داعش"، وغيره من التنظيمات العنفية المتطرّفة لا ينبغي أبدا أن تحجب رؤيتنا عن الخلفيات المُؤَسِّسَةِ لها. أيضا، فإن إدانتنا هذا الفكر المنحرف، وضرورة تصدّينا له، لا ينبغي أبدا أن يكون منطلقها رفض الغرب له، وتحميل الإسلام والمسلمين وزره. بل إن رفضنا هذا الفكر المتطرّف ضرورة وجودية لنا اليوم، حيث يُراد لخياراتنا كأمة، عربية أو إسلامية، أن تكون رهينة ثنائيةٍ لا تقل إحداهما سوءا عن الأخرى: إما الدكتاتورية أو الإرهاب. إنها اللعبة نفسها التي حُبِكَتْ من قبل، وذلك عندما وضعنا أمام خياريِّ: الاستبداد أو الفوضى، في حين أن أي قراءة متأنِّيَةٍ ستوصلنا إلى نتيجة واحدة: الاستبداد هو صنو الفوضى، والعدوان هو صنو الإرهاب. إنها معطيات ومتغيرات يغذّي أحدها الآخر، ويسوّغ أحدها الآخر. ونحن إن لم ننجح في كسر هذه الدائرة الشريرة المغلقة، سنبقى ندور في أتونها حتى نفنى كأمة.
في الخلفيات المُؤَسِّسَةِ، لابد من الاعتراف بأن ثمّة فقها متطرّفا نما عبر عقود، بل وقرونٍ
ما يزيد في تعقيد المشكلة ذلك الصراع على روحِ الإسلام بين هذه التيارات وبعض الأنظمة القمعية، من حيث ينقض كلاهما رسالة الإسلام وكينونته. فإذا كانت التيارات العنفية المتطرّفة تجعل من الإسلام، ضمن رؤيتها المنحرفة وممارستها الضالة، سلاح إجرام، فإن كثيرا من الأنظمة الرسمية الدكتاتورية، إما أنها تؤمم فضاء الدين لتسويغ قمعها وتسلطها، وكذلك إجرامها، أو أنها تتاجر فيه لمصالح ضيقة، وذلك كما فعل ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، قبل نحو أسبوعين عندما أعلن أن المملكة ستعود "إلى الإسلام المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان". مضيفا: "لن نضيع ثلاثين عاما أخرى في التعامل مع الأفكار المتطرّفة، سنراهن على الإسلام المعتدل المنفتح على الثقافات". ما لم يقله ابن سلمان هنا أن المملكة تاجرت بـ"الأفكار المتطرّفة" في الثلاثين سنة الماضية، ولأن تلك التجارة قد كسدت، فإن المملكة تسعى اليوم إلى تغيير عملة التجارة أو سلعتها، وهي مقاربة الإسلام هنا. إذن، ليست المشكلة في الإسلام، وإنما في كيفية محاولات توظيفه.
ينسحب المنطق نفسه على تصريحات سابقة للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عام
باختصار، فإن الفقه المتطرّف، أو "الأفكار المتطرفة"، إذا استخدمنا تعبير ولي العهد السعودي، و"الفكر الذي نقدّسه" و"يدفع الأمة بكاملها" لقتل وتدمير "الدنيا كلها"، بتعبير السيسي، ما كان ليكون لها هذا الحضور لولا مساهمتهم هم، ومن على شاكلتهم، في تصنيعها. هذا الفقه المتطرّف، أو "الأفكار المتطرّفة" كانا دوما موجودين، لكنهما كانا غير مُفَعَّلينِ. وما دفعهما إلى الأعلى هي المعطيات على الأرض، لا نفض الغبار عن مدوّنات فقهية مغمورة، أو إعادة استحضار عقليات ونماذج تاريخية بَلِيَت. إنها ذلك الخليط المسموم ما بين فكر مأزوم وفقه متطرّف، وقمع وفشل داخلي، ومحاربة للتيارات الإسلامية المعتدلة ومحاولة توظيف الدين لتسويغ الطغيان، وهزيمة وخضوع للعدو الخارجي وعدوانه. بعد ذلك كله، ما الذي نتوقعه غير ما نراه.. بل وأسوأ قد يكون قادما في الطريق.