08 نوفمبر 2024
السياق الأوسع لاحتجاجات الأردن
لا يختلف اثنان على أن ما حرّك احتجاجات الشارع الأردني، نهاية الشهر الماضي (مايو/أيار)، هي سياسات الجباية من المواطنين التي اتبعتها الحكومات الأردنية المتعاقبة، لخفض ديون البلاد المتراكمة، والتي تجاوزت 37 مليار دولار، وتلتهم 95% من الناتج المحلي الإجمالي، بشكلٍ وضع الأردن، عملياً، تحت وصاية صندوق النقد الدولي. أيضا، لا يختلف اثنان على أن المواطن الأردني ما عاد قادرا على الصبر على الفساد وسوء الإدارة في أجهزة الدولة ومؤسساتها، فوحده المواطن هو من يُطلب منه تحمّل تبعات ذلك الفساد وسوء الإدارة، في حين ما زالت تتعامل نخب السلطة وكأنها تحكم دولةً تملك ثروات دول غنية. طبعا، لا يُنسى هنا حقيقة أن الأردن يعاني ضائقة اقتصادية، من جرّاء إغلاق معابره الحدودية مع العراق وسورية منذ سنوات، كما أنه يستضيف أكثر من مليون لاجئ سوريٍ، من دون دعم دولي حقيقي، وهم قد وضعوا ضغطا كبيرا على البنية التحتية المهترئة أصلا، والمصادر الفقيرة، في بلدٍ تزيد نسبة البطالة الرسمية فيه عن 18%، أما المقنعة فهي أضعاف ذلك. ومن ثمَّ، فإن الانفجار كان تحصيل حاصل، والكل كان يعلم أنه مسألة وقت، ذلك أن الطبقة الوسطى في الأردن، عماد استقرار أي مجتمع، في طريقها إلى الانقراض، وواضحٌ أن الحكومات الأردنية فقدت أي حلولٍ خلاقة للوضع الاقتصادي المتردّي إلا عبر جيب المواطن الأردني البسيط، في حين يسرح ويمرح الفاسدون والناهبون طلقاء أحرارا. معادلة أن الفقير يزداد فقرا، والغني يزداد غنى، خصوصا في غياب أي أفق للحل، فضلا عن الركود السياسي، والتأزم الاجتماعي، كفيلة بأن تهدّد استقرار أي مجتمع، مهما كان متماسكا، أو ظُنَّ أنه كذلك.
كل ما سبق مفهوم، ولا خلاف فيه، ولكن لا ينبغي لهذا أن يعمينا عن السياق الأوسع لأزمة
الأردن منذ نحو عام ونصف العام، أي منذ تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، وبدء الحديث عن "صفقة القرن" لتصفية القضية الفلسطينية. وبعيدا عن التفاصيل الكثيرة التي تُسَرَّبُ تباعا عن تلك "الصفقة" العتيدة، فإن من أهمِّ أركانها أنها ستكون "صفقة" إقليمية، وليست فلسطينية - إسرائيلية فحسب. وتقوم جزء من حسابات الفريق الذي يعكف على صياغة "صفقة القرن" في إدارة ترامب على أن المحور العربيَّ المُتَغَلِّبَ اليوم (محور الاعتدال)، وتقوده السعودية والإمارات، بدعم من مصر والبحرين، يرى في إيران، واستتباعا "الإسلام السياسي"، بما يشمل تركيا (بغض النظر عن دقة نسبة تركيا لمحور "الإسلام السياسي")، مصدري التهديد الأكبر للنظام الرسمي العربي في المنطقة. وضمن هذا المنطق، تصبح إسرائيل حليفا، لا عدوا، ولا حتى خصما استراتيجيا، وتكون القضية الفلسطينية ضمن هذا السياق عقبةً لابد من تحييدها، مهما كان الثمن. ولأن إسرائيل لا تقبل بحلٍّ على أساس قرارات ما تسمى الشرعية الدولية، بما في ذلك قيام دولة فلسطينية على حدود عام 1967، دع عنك موضوع حق العودة أو السيادة على شرقيَّ القدس، فإن "محور الاعتدال"، عربيا، تساوق مع الطروحات الإسرائيلية التي تبناها ترامب نفسه في لقائه، في شهر شباط/فبراير عام 2017، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأن حل "المشكلة الفلسطينية" لابد أن يتحمل كلفته الإقليم كله، جغرافيا وديمغرافيا، أم اقتصاديا وماليا، وهو ما يبدو أن محور الرياض - أبوظبي - القاهرة يتبنّاه اليوم.
المفارقة هنا أنه، وعلى الرغم من أنه يُفْتَرَضُ أن الأردن هو أحد أضلاع "محور الاعتدال" العربي، لكن "أشقاء السوء" يبدو أنهم قرّروا أن يقدموه كبش فداء مع الفلسطينيين. واقعيا، وفي ظل إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بحوالي 60% من الضفة الغربية، فإن الأردن يبقى العمق الجغرافي الوحيد المتاح للفلسطينيين المقيمين فيها. أيضا، تصر إسرائيل على أنها لن تتنازل عن السيادة في شرقيِّ القدس، بما فيها الأماكن المقدّسة، والتي يحظى الأردن بحق الولاية الدينية عليها ورعايتها. وتتمتع إسرائيل، في موقفيها السابقين، بدعم إدارة ترامب. ولأن الأردن يرفض أن يكون الحل في فلسطين المحتلة على حسابه، ولأن الهاشميين يرفضون التنازل إلى اليوم عن "الوصاية" على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة، فذلك يضع عراقيل أمام إعلان الحلف، القائم عمليا، بين الرياض - أبوظبي، تحديدا، مع إسرائيل. ومن ثمَّ، فإنه يمكن الافتراض هنا أن جزءا من حسابات محور الرياض - أبوظبي في قطع المساعدات الخليجية المالية عن الأردن، والتي كانت تبلغ مليار دولار سنويا، إنما تأتي في سياق محاولات تدجين قيادته وإرغامها على تجرع السُمِّ. صحيحٌ أن تراجع أسعار النفط عاملٌ لا يمكن إغفاله هنا، وهو قد يكون ضمن الحسابات الكويتية مثلا، كأحد المانحين السنويين للأردن في الماضي، لكن تراجع أسعار النفط لم يمنع السعودية والإمارات إلى اليوم عن تقديم مليارات الدولارات سنويا لمصر، الأمر الذي يراقبه الأردن بامتعاض، ذلك أنه، أكثر من مصر، قدّم خدمات جليلة للسعودية والإمارات، ولكنه لم يكافأ كما كوفئ نظام عبد الفتاح السيسي في مصر.
ثمة مؤشرات كثيرة على ما سلف، منها التصريحات المتعددة التي صدرت عن العاهل الأردني، عبد الله الثاني، ومسؤولين أردنيين كثيرين بأن الأردن يدفع ثمن رفضه قرار ترامب، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وكان نُقِلَ عن الملك قوله، قبل أيام في اجتماعه مع رؤساء تحرير الصحف الأردنية: "التأثير الإقليمي ومواقفنا الإقليمية السياسية أثرت على المملكة، ناهيك عن أن الدور الذي يمارسه الأردن لا يرضي الجميع". وثمّة معلوماتٌ تقول إن الملك عبد الله عندما قرّر المشاركة في القمة الإسلامية الاستثنائية في إسطنبول التي كان دعا إليها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ردا على قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فإن ذلك أثار امتعاض الرياض التي حاولت ثنيه عن المشاركة الشخصية في القمة، إلا أنه رفض، وتوجه مباشرة من الرياض إلى إسطنبول. وقد رافق ذلك وتبعه تحرشٌ سعوديٌ بالأردن، باحتجاز الملياردير الأردني - الفلسطيني، صبيح المصري، والذي يحمل جنسية سعودية، ويرأس مجلس إدارة البنك العربي، أحد أهم أعمدة الاستقرار الاقتصادي في الأردن. جرى الأمر نفسه الشهر الماضي، عندما شارك الملك، بشكل غير مسبوق، برفقة أشقائه الأربعة، في القمة الإسلامية الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، ردا على قتل
إسرائيل عشرات الفلسطينيين من المتظاهرين السلميين في قطاع غزة. وقد عدَّ كثيرون ذلك رسالةً أن البيت الهاشمي موحد في موقفه من حق الأردن في الرعاية الرسمية للأماكن المقدسة في القدس، والتي تحاول السعودية منافسته فيها في الأشهر الأخيرة، كما أن الأردن موحدٌ في رفضه أن يكون أي حلٍّ للقضية الفلسطينية على حسابه. ولعل في مصافحة الملك الرئيس الإيراني، حسن روحاني، على هامش القمة، ورفضه الخضوع لكل ضغوط الرياض-أبوظبي قطع العلاقات الدبلوماسية مع قطر، مؤشرات على أن الأردن قد اتخذ قرارا بالتصدي لأي محاولةٍ لتقديمه للمحرقة لصالح حساباتٍ أنانيةٍ للسعودية والإمارات.
باختصار، تَمُرُّ المنطقة بمرحلةٍ من إعادة تشكيل بنيانها وأسسها وكياناتها، كما أن تحالفاتها تشهد انزياحاتٍ حقيقية، وهي لم تعد قائمةً على الاتفاق في الموقف فحسب، بل أيضا على عدم تعارض المصالح بين أطرافها المختلفة. ضمن هذه التوليفة، يجد الأردن اليوم مصالحه الأساسية متعارضةً مع مصالح محور الرياض - أبوظبي، المدعوم بتواطؤ مصري بحريني. لم تعد السعودية، ولا الإمارات، بحاجة إلى الأردن، للتواصل مع تل أبيب ولا واشنطن، وهما تريدان حلا سريعا للقضية الفلسطينية، ولو ضَيَّعَ ما تبقى من فتات الحقوق الفلسطينية، وهدد وجود النظام الأردني واستقراره، وذلك لتقديم أوراق اعتمادهما لإسرائيل والولايات المتحدة.
الأردن أمام معضلة حقيقية، فتمرده على "محور الاعتدال" العربي، ومن ورائه واشنطن وتل أبيب، قد يضعه أمام تحدياتٍ أكبر، ليس أقلها طرد عشرات الآلاف من الأردنيين العاملين في السعودية والإمارات، فضلا عن رفع الغطاء الأميركي السياسي عنه. وبقاؤه وحيدا في وجه هذا المحور قد يعني انكساره، لا قدر الله. هنا لا يبقى للنظام السياسي الأردني إلا أن يصارح شعبه بالخطوط العامة لما يُراد ببلدهم ليشاركوا في الدفاع عن كينونته ومصالحه، ويقرن ذلك بإصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ حقيقيةٍ، بنيويةٍ وهيكلية، ومحاربةٍ فاعلة للفساد ووقف للهدر، مع محاولة تنويع التحالفات الأردنية، إقليميا ودوليا. نقطة أخيرة، ما لا يفهمه محور السعودية - الإمارات، أن اضطرابات شعبية في الأردن لن يكونا في مأمنٍ منها مستقبلا، فحتى هما لديهما مشكلاتهما الاقتصادية مع شعبيهما، وأي اهتزازٍ في استقرار نظام ملكيٍّ عربي سيكون له ما بعده على نظرائه. يبدو أن هذه هي الرسالة التي يراهن النظام الأردني على وصولها إلى مسامع "أشقاء السوء"، وفي حال وصلت، فقد تغيّر في بعض حساباتهم، ولو آنيا.
كل ما سبق مفهوم، ولا خلاف فيه، ولكن لا ينبغي لهذا أن يعمينا عن السياق الأوسع لأزمة
المفارقة هنا أنه، وعلى الرغم من أنه يُفْتَرَضُ أن الأردن هو أحد أضلاع "محور الاعتدال" العربي، لكن "أشقاء السوء" يبدو أنهم قرّروا أن يقدموه كبش فداء مع الفلسطينيين. واقعيا، وفي ظل إصرار إسرائيل على الاحتفاظ بحوالي 60% من الضفة الغربية، فإن الأردن يبقى العمق الجغرافي الوحيد المتاح للفلسطينيين المقيمين فيها. أيضا، تصر إسرائيل على أنها لن تتنازل عن السيادة في شرقيِّ القدس، بما فيها الأماكن المقدّسة، والتي يحظى الأردن بحق الولاية الدينية عليها ورعايتها. وتتمتع إسرائيل، في موقفيها السابقين، بدعم إدارة ترامب. ولأن الأردن يرفض أن يكون الحل في فلسطين المحتلة على حسابه، ولأن الهاشميين يرفضون التنازل إلى اليوم عن "الوصاية" على الأماكن المقدسة في القدس المحتلة، فذلك يضع عراقيل أمام إعلان الحلف، القائم عمليا، بين الرياض - أبوظبي، تحديدا، مع إسرائيل. ومن ثمَّ، فإنه يمكن الافتراض هنا أن جزءا من حسابات محور الرياض - أبوظبي في قطع المساعدات الخليجية المالية عن الأردن، والتي كانت تبلغ مليار دولار سنويا، إنما تأتي في سياق محاولات تدجين قيادته وإرغامها على تجرع السُمِّ. صحيحٌ أن تراجع أسعار النفط عاملٌ لا يمكن إغفاله هنا، وهو قد يكون ضمن الحسابات الكويتية مثلا، كأحد المانحين السنويين للأردن في الماضي، لكن تراجع أسعار النفط لم يمنع السعودية والإمارات إلى اليوم عن تقديم مليارات الدولارات سنويا لمصر، الأمر الذي يراقبه الأردن بامتعاض، ذلك أنه، أكثر من مصر، قدّم خدمات جليلة للسعودية والإمارات، ولكنه لم يكافأ كما كوفئ نظام عبد الفتاح السيسي في مصر.
ثمة مؤشرات كثيرة على ما سلف، منها التصريحات المتعددة التي صدرت عن العاهل الأردني، عبد الله الثاني، ومسؤولين أردنيين كثيرين بأن الأردن يدفع ثمن رفضه قرار ترامب، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس. وكان نُقِلَ عن الملك قوله، قبل أيام في اجتماعه مع رؤساء تحرير الصحف الأردنية: "التأثير الإقليمي ومواقفنا الإقليمية السياسية أثرت على المملكة، ناهيك عن أن الدور الذي يمارسه الأردن لا يرضي الجميع". وثمّة معلوماتٌ تقول إن الملك عبد الله عندما قرّر المشاركة في القمة الإسلامية الاستثنائية في إسطنبول التي كان دعا إليها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، ردا على قرار ترامب نقل السفارة الأميركية إلى القدس، فإن ذلك أثار امتعاض الرياض التي حاولت ثنيه عن المشاركة الشخصية في القمة، إلا أنه رفض، وتوجه مباشرة من الرياض إلى إسطنبول. وقد رافق ذلك وتبعه تحرشٌ سعوديٌ بالأردن، باحتجاز الملياردير الأردني - الفلسطيني، صبيح المصري، والذي يحمل جنسية سعودية، ويرأس مجلس إدارة البنك العربي، أحد أهم أعمدة الاستقرار الاقتصادي في الأردن. جرى الأمر نفسه الشهر الماضي، عندما شارك الملك، بشكل غير مسبوق، برفقة أشقائه الأربعة، في القمة الإسلامية الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول، ردا على قتل
باختصار، تَمُرُّ المنطقة بمرحلةٍ من إعادة تشكيل بنيانها وأسسها وكياناتها، كما أن تحالفاتها تشهد انزياحاتٍ حقيقية، وهي لم تعد قائمةً على الاتفاق في الموقف فحسب، بل أيضا على عدم تعارض المصالح بين أطرافها المختلفة. ضمن هذه التوليفة، يجد الأردن اليوم مصالحه الأساسية متعارضةً مع مصالح محور الرياض - أبوظبي، المدعوم بتواطؤ مصري بحريني. لم تعد السعودية، ولا الإمارات، بحاجة إلى الأردن، للتواصل مع تل أبيب ولا واشنطن، وهما تريدان حلا سريعا للقضية الفلسطينية، ولو ضَيَّعَ ما تبقى من فتات الحقوق الفلسطينية، وهدد وجود النظام الأردني واستقراره، وذلك لتقديم أوراق اعتمادهما لإسرائيل والولايات المتحدة.
الأردن أمام معضلة حقيقية، فتمرده على "محور الاعتدال" العربي، ومن ورائه واشنطن وتل أبيب، قد يضعه أمام تحدياتٍ أكبر، ليس أقلها طرد عشرات الآلاف من الأردنيين العاملين في السعودية والإمارات، فضلا عن رفع الغطاء الأميركي السياسي عنه. وبقاؤه وحيدا في وجه هذا المحور قد يعني انكساره، لا قدر الله. هنا لا يبقى للنظام السياسي الأردني إلا أن يصارح شعبه بالخطوط العامة لما يُراد ببلدهم ليشاركوا في الدفاع عن كينونته ومصالحه، ويقرن ذلك بإصلاحاتٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ حقيقيةٍ، بنيويةٍ وهيكلية، ومحاربةٍ فاعلة للفساد ووقف للهدر، مع محاولة تنويع التحالفات الأردنية، إقليميا ودوليا. نقطة أخيرة، ما لا يفهمه محور السعودية - الإمارات، أن اضطرابات شعبية في الأردن لن يكونا في مأمنٍ منها مستقبلا، فحتى هما لديهما مشكلاتهما الاقتصادية مع شعبيهما، وأي اهتزازٍ في استقرار نظام ملكيٍّ عربي سيكون له ما بعده على نظرائه. يبدو أن هذه هي الرسالة التي يراهن النظام الأردني على وصولها إلى مسامع "أشقاء السوء"، وفي حال وصلت، فقد تغيّر في بعض حساباتهم، ولو آنيا.