01 فبراير 2019
السياسة والشرط الأخلاقي
مع تواتر حالات تورّط فاعلين سياسيين مغاربة في قضايا للفساد، تبدو الحاجة ملائمة للوقوف الموضوعي على جزء من الإشكاليات التي يطرحها سؤال الالتزام الأخلاقي للفاعل السياسي؟
فهذا الالتزام وحده يستطيع إعطاء المعنى الحقيقي للعمل السياسي، ممارسة مدنية نبيلة وخدمة مواطنة للصالح العام، وهو المعنى الوحيد الذي يستطيع بعث الثقة المجتمعية في العملية السياسية التي عانت عقوداً من مسلسلٍ إرادي للإفساد، ظلت إحدى غاياته، من جهة، ربط تمثّل "رجل السياسة" في المخيال الجمعي للناس، بصورة الانتهازي الباحث عن مصالحه، بعيداً عن احترام القانون. ومن جهة أخرى، تعميم هذه الصورة الجاهزة على كل السياسيين، وتقديمهم بشكل نمطي فاسدين أو مشاريع فاسدين. وكان هذا الربط الإرادي بين السياسيين والفساد من عناصر استراتيجية القتل الممنهج للسياسة نفسها، بتحويلها في الأذهان إلى مجرد صراع طاحن بين المصالح الفردية والمسارات الشخصية، والإمعان في اعتبارها بالتعريف مجالاً لا علاقة له بالأخلاق والقيم.
لذلك، انتبهت المعارضات الديمقراطية للسلطوية، دائماً، إلى الحاجة لتحصين الممارسة الأخلاقية لقياداتها وقواعدها، أمام محاولات الأنظمة استدراج نخبها إلى دائرة الفساد، لعزلها أولاً عن حاضنها المجتمعي، وثانياً لإبطال مفعول المصداقية المبنية على تفوقها الأخلاقي في مواجهة خصومها السياسيين.
تفترض معالجة السؤال المذكور مغامرة التحرّر قليلاً من وتيرة النقاش، أو الأصح، الجدل الذي يطبع مرور مثل هذه القضايا داخل وسائط التواصل الاجتماعي، فإذا كانت هذه الوسائط قد غدت، بلا منازع، سلطةً رقابية نافذة، فإنها، في المقابل، تحمل، في طبيعتها الجوهرية، كثيراً من فخاخ الانجرار وراء الانتقائية أو السهولة أو التعميم أو الشطط في توزيع الاتهامات. والمؤكد أنها، كغيرها من وسائل التواصل، معرضةٌ للسقوط في الإستراتيجيات المتقاطعة للاستعمال السياسي ومناورات التصفية والحروب المستمرة بين الفاعلين.
تشتغل هذه السلطة الرقابية، في مفارقةٍ واضحةٍ، بحدّة أكبر، كلما تعلق الأمر بفاعلٍ سياسيٍّ يزاول مهمةً انتدابيةً أو تدبيرية، وبحدّة أقل في حالة رجال السلطة أو التكنوقراط. وداخل الحلقة الأولى، تزداد الحدّة تصاعدياً كلما ارتبط الأمر بفاعلٍ سياسي، ينتمي إلى منظومةٍ حزبيةٍ، بخلفية قيمية وأخلاقية واضحة في الخطاب وفي الممارسة.
في الحالات الواضحة للقضايا التي تكيف جنائياً، ملفات للفساد، تعلق الأمر بالرشوة أو السرقة وخيانة الأمانة، أو تضارب المصالح أو استغلال النفوذ أو التسريبات المخلة بالتنافس...، نبدو أمام حالاتٍ مدرسيةٍ لفساد مدبّري الشأن العام، منتخبين كانوا أو رجال سلطة أو مسيّرين عموميين، وهي حالاتٌ، تقتضي بعد التحرّي والإثبات، موقفاً أخلاقيا قطعياً وتفعيلاً طبيعياً لآليات المتابعة القانونية والقضائية.
تطرح الإشكالية عندما يتعلق الأمر بحالاتٍ رمادية، لا يمكن تكييفها قضايا فسادٍ من الناحية القانونية والجنائية، لكنها تثير شبهة أخلاقية وسياسية. إنها لا ترتبط بمجال القانون، وإنما بالأخلاقيات، إذ لا يمكن بصددها تحريك مساطر المتابعة القضائية، لكنها تشكل مسّاً مباشراً بالنزاهة الأخلاقية للفاعل العمومي.
وهنا، يظلّ مجال الشبهة، الموجود بين الاستقامة والانحراف، أكثر غموضاً واتساعاً وصعوبةً في التحديد. ذلك أن هذا التحديد يرتبط بطبيعة الشبكة المرجعية التي نقرأ من خلالها كل حالةٍ على حدة، وهي شبكة تختلف باختلاف تفضيلاتنا القيمية وتقديراتنا الخاصة، حزباً أو نقابة أو جمعية أو منظمة إدارية.
لذلك، تجد أحزاب نفسها مضطرّة إلى الاتفاق على مدوّنات دقيقة للسلوك، تفترض عقوباتٍ تنظيمية ومساطر للاستماع والدفاع، وهيئات للتحكيم، فيما لا تجد أحزابٌ أخرى حرجاً في تفادي مثل هذه القواعد والأعراف والتقاليد التنظيمية، بالنظر إلى التفاوت في طبيعة تمثلها لحضور الشرط الأخلاقي في ممارستها السياسية.
في مراتٍ كثيرة، يدعونا التفكير في هذا الموضوع إلى طرح سؤال ضروري بشأن المطلوب بالضبط من الفاعل السياسي، على مستوى التزامه الأخلاقي: هل يُفترض فيه الزهد والتعفّف في ممارسة بعض من حقوقه المكفولة بالقانون، أم عليه فقط ممارسة مواطنته الكاملة، بلا أدنى تمييز سلبي مع باقي الأفراد من جهة، ولا مواطنة امتيازية في الجهة المقابلة، من دون "دروشةٍ" من جهة، ولا استغلال للنفوذ من جهة أخرى؟ وهل لا يحق للفاعل السياسي ما يحق لغيره من المواطنين؟
فهذا الالتزام وحده يستطيع إعطاء المعنى الحقيقي للعمل السياسي، ممارسة مدنية نبيلة وخدمة مواطنة للصالح العام، وهو المعنى الوحيد الذي يستطيع بعث الثقة المجتمعية في العملية السياسية التي عانت عقوداً من مسلسلٍ إرادي للإفساد، ظلت إحدى غاياته، من جهة، ربط تمثّل "رجل السياسة" في المخيال الجمعي للناس، بصورة الانتهازي الباحث عن مصالحه، بعيداً عن احترام القانون. ومن جهة أخرى، تعميم هذه الصورة الجاهزة على كل السياسيين، وتقديمهم بشكل نمطي فاسدين أو مشاريع فاسدين. وكان هذا الربط الإرادي بين السياسيين والفساد من عناصر استراتيجية القتل الممنهج للسياسة نفسها، بتحويلها في الأذهان إلى مجرد صراع طاحن بين المصالح الفردية والمسارات الشخصية، والإمعان في اعتبارها بالتعريف مجالاً لا علاقة له بالأخلاق والقيم.
لذلك، انتبهت المعارضات الديمقراطية للسلطوية، دائماً، إلى الحاجة لتحصين الممارسة الأخلاقية لقياداتها وقواعدها، أمام محاولات الأنظمة استدراج نخبها إلى دائرة الفساد، لعزلها أولاً عن حاضنها المجتمعي، وثانياً لإبطال مفعول المصداقية المبنية على تفوقها الأخلاقي في مواجهة خصومها السياسيين.
تفترض معالجة السؤال المذكور مغامرة التحرّر قليلاً من وتيرة النقاش، أو الأصح، الجدل الذي يطبع مرور مثل هذه القضايا داخل وسائط التواصل الاجتماعي، فإذا كانت هذه الوسائط قد غدت، بلا منازع، سلطةً رقابية نافذة، فإنها، في المقابل، تحمل، في طبيعتها الجوهرية، كثيراً من فخاخ الانجرار وراء الانتقائية أو السهولة أو التعميم أو الشطط في توزيع الاتهامات. والمؤكد أنها، كغيرها من وسائل التواصل، معرضةٌ للسقوط في الإستراتيجيات المتقاطعة للاستعمال السياسي ومناورات التصفية والحروب المستمرة بين الفاعلين.
تشتغل هذه السلطة الرقابية، في مفارقةٍ واضحةٍ، بحدّة أكبر، كلما تعلق الأمر بفاعلٍ سياسيٍّ يزاول مهمةً انتدابيةً أو تدبيرية، وبحدّة أقل في حالة رجال السلطة أو التكنوقراط. وداخل الحلقة الأولى، تزداد الحدّة تصاعدياً كلما ارتبط الأمر بفاعلٍ سياسي، ينتمي إلى منظومةٍ حزبيةٍ، بخلفية قيمية وأخلاقية واضحة في الخطاب وفي الممارسة.
في الحالات الواضحة للقضايا التي تكيف جنائياً، ملفات للفساد، تعلق الأمر بالرشوة أو السرقة وخيانة الأمانة، أو تضارب المصالح أو استغلال النفوذ أو التسريبات المخلة بالتنافس...، نبدو أمام حالاتٍ مدرسيةٍ لفساد مدبّري الشأن العام، منتخبين كانوا أو رجال سلطة أو مسيّرين عموميين، وهي حالاتٌ، تقتضي بعد التحرّي والإثبات، موقفاً أخلاقيا قطعياً وتفعيلاً طبيعياً لآليات المتابعة القانونية والقضائية.
تطرح الإشكالية عندما يتعلق الأمر بحالاتٍ رمادية، لا يمكن تكييفها قضايا فسادٍ من الناحية القانونية والجنائية، لكنها تثير شبهة أخلاقية وسياسية. إنها لا ترتبط بمجال القانون، وإنما بالأخلاقيات، إذ لا يمكن بصددها تحريك مساطر المتابعة القضائية، لكنها تشكل مسّاً مباشراً بالنزاهة الأخلاقية للفاعل العمومي.
وهنا، يظلّ مجال الشبهة، الموجود بين الاستقامة والانحراف، أكثر غموضاً واتساعاً وصعوبةً في التحديد. ذلك أن هذا التحديد يرتبط بطبيعة الشبكة المرجعية التي نقرأ من خلالها كل حالةٍ على حدة، وهي شبكة تختلف باختلاف تفضيلاتنا القيمية وتقديراتنا الخاصة، حزباً أو نقابة أو جمعية أو منظمة إدارية.
لذلك، تجد أحزاب نفسها مضطرّة إلى الاتفاق على مدوّنات دقيقة للسلوك، تفترض عقوباتٍ تنظيمية ومساطر للاستماع والدفاع، وهيئات للتحكيم، فيما لا تجد أحزابٌ أخرى حرجاً في تفادي مثل هذه القواعد والأعراف والتقاليد التنظيمية، بالنظر إلى التفاوت في طبيعة تمثلها لحضور الشرط الأخلاقي في ممارستها السياسية.
في مراتٍ كثيرة، يدعونا التفكير في هذا الموضوع إلى طرح سؤال ضروري بشأن المطلوب بالضبط من الفاعل السياسي، على مستوى التزامه الأخلاقي: هل يُفترض فيه الزهد والتعفّف في ممارسة بعض من حقوقه المكفولة بالقانون، أم عليه فقط ممارسة مواطنته الكاملة، بلا أدنى تمييز سلبي مع باقي الأفراد من جهة، ولا مواطنة امتيازية في الجهة المقابلة، من دون "دروشةٍ" من جهة، ولا استغلال للنفوذ من جهة أخرى؟ وهل لا يحق للفاعل السياسي ما يحق لغيره من المواطنين؟