ظلّت المحافظة طوال السنوات الخمس الماضية تقاوم الضغوط عليها من طرفَي النظام والمعارضة على حدّ سواء، وحتى قوى محلية وخارجية، إذ سعى كل منهم إلى استمالتها، حتى اختارت التقوقع المناطقي. وبات هاجس زعاماتها المختلفة، تجنّب الأسوأ، والنأي بالمحافظة عن الصراع المسلح من دون التفاعل مع ما يجري في بقية أرجاء الوطن.
في الأيام الأولى للثورة السورية ومع اندلاع المواجهات في محافظة درعا المجاورة، شارك أبناء المحافظة بتظاهرات محدودة خصوصاً في ذكرى وفاة الزعيم سلطان باشا الأطرش، في 26 مارس/آذار 2011، وذكرى الاستقلال عن فرنسا في 17 أبريل/نيسان من العام ذاته، فضلاً عن اعتصامات للمحامين وغيرهم من الفئات. وترافق ذلك، مع حملات اعتقال طاولت الشباب الناشطين الذين دبّت بهم الحماسة على وقع أغنية (يا حيف) التي أطلقها ابن المحافظة الفنان سميح شقير، في التعبير الغنائي الأول عن الثورة، فتردّد صداها في مختلف المدن السورية.
إلّا أنّ كل هذه التحركات ما لبثت أن خفتت، وتراجعت التظاهرات، تدريجياً، حتى غابت تقريباً عن المشهد العام في المحافظة، ليحلّ مكانها النشاط الإغاثي والإنساني، خصوصاً مع بدء تدفق النازحين من محافظة درعا إلى السويداء، والذين وصل عددهم إلى نحو 150 ألفا. ومع توجّه الثورة للعمل المسلح في الأشهر الأخيرة من عام 2011، حاول بعض أبناء المحافظة اللحاق به، لكنّها ظلّت محاولات ضعيفة، سرعان ما تلاشت كلياً. وغادر أفراد أول فئة مسلّحة تخص محافظة السويداء، وهي كتيبة "سلطان باشا الأطرش" إلى الأردن، خوفاً من تنظيم "جبهة النصرة".
كما أن المجلس العسكري في محافظة السويداء، لم يشارك بأي عمل عسكري واضح، سوى ما قيل عن مشاركته الخجولة بمعارك خربة غزالة، ما أدى إلى حلّ جميع الكتائب التابعة له. وأصبحت عناصر الكتائب مبعثرة ما بين الأردن وتركيا، حتى الكتيبة الوحيدة غير التابعة للمجلس العسكري في السويداء، والعاملة في ريف دمشق، بقيادة حسام ذيب، تم حلّها.
في منتصف العام 2014، جرت الصدامات الأولى بين الأهالي وقوات الأمن ولجان الدفاع الوطني (التابع للجيش النظامي)، وترتّب عنها اعتقال الشيخ لورانس سلام وأخيه، بحجة أنّه داعم لـ"الإرهابيين". وأجبر تحرّك الأهالي سلطات النظام على إطلاق سراحه، وإقالة رئيس فرع الاستخبارات العسكرية، وفيق ناصر. كما عمد بعض المشايخ إلى انتخاب شيخ جديد رئيساً وحيداً للهيئة الروحية لطائفة الموحدين الدروز، وهو أبو فهد وحيد البلعوس، عازلين بذلك المشايخ الثلاثة؛ حمود الحناوي، ويوسف جربوع، وحكمت الهجري التابعين للنظام. ورفض المشايخ تسليم السلاح المدني باعتباره "دفاعاً عن العرض والأرض". كما رفضوا دخول الوزير اللبناني السابق، الموالي للنظام، وئام وهاب إلى السويداء، والذي كان يحاول تسليح بعض شبان المحافظة، بغية ترهيب المعارضين فيها، وزجّ أبناء المحافظة في معارك النظام.
ومع اقتراب فصائل المعارضة من محافظة السويداء، منتصف عام 2015، تزامناً مع مباشرة النظام سحب بعض قواته، افتعل النطام صداماً بين المعارضة وأهالي السويداء، إثر محاولة المعارضة السيطرة على مطار الثعلة العسكري. وبدأ وجهاء المدينة في تقليب الخيارات المتاحة أمامهم لمواجهة هذه التطورات، والتي بدت تتمحور حول ثلاث نقاط؛ إمّا التحالف مع النظام ضد كل من المعارضة وتنظيم "داعش" الذي بدأ يقترب هو الآخر من المحافظة، أو التحالف مع المعارضة ضد النظام، أو طرح موضوع السويداء كقضية إقليمية تخصّ جميع دروز المنطقة، وطلب تسليحهم من جانب المجتمع الدولي كما حصل مع الأكراد في مدينة عين العرب.
اقرأ أيضاً السويداء بعد اغتيال بلعوس: نحو الحكم الذاتي
والواقع، أن التطورات التي واجهتها محافظة السويداء في تلك الفترة، والتي تخلّلها مقتل شيخ الكرامة، وحيد البلعوس، الذي تحدّى النظام في المحافظة، وشكّل ما يشبه بـ"مليشيا مسلحة"، دفعت المحافظة إلى واجهة الأحداث. وحاول كل طرف استثمار الوضع لصالحه، بما في ذلك إسرائيل التي شكّلت لها هذه القضية أوسع باب للدخول على خط الأحداث في سورية، تارة بدعوى حماية الدروز من مجازر محتملة، وتارة أخرى بذرائع إنسانية. لكن إسرائيل اضطرت تباعاً إلى كفّ يدها.
أما أبرز اللاعبين في ساحة السويداء، فهو النظام السوري، من خلال تحريك أجهزته العسكرية، والأمنية، والإعلامية لنشر صورة أمام العالم، أراد من خلالها تكريس المحافظة بأنّها موالية له. كما سعى إلى إثبات أنّه من دون وقفة أهلها إلى جانبه، ما كان لقواته سواء في السويداء أو القنيطرة أن تصدّ مسلحي المعارضة. كما وافق النظام على مطالب الأهالي وشيوخ الطائفة الدرزية بألّا يؤدّي أبناء المحافظة خدمتهم العسكرية، إلّا داخل المحافظة وفي محيطها لتجنّب زجّهم في معارك النظام على الجبهات المختلفة. كذلك أبدى تساهلاً في ما يتعلق بمطاردة المتخلّفين عن الخدمة العسكرية، والذين يقدّر عددهم بأكثر من عشرين ألفا، في مسعى منه لتجنب التصادم مع المحافظة، والإيحاء بأن "عدوّهما" المشترك هو فصائل المعارضة في محافظة درعا، فضلاً عن مساعيه إلى تضخيم دور "جبهة النصرة"، وبثّ الشائعات بأنّها تعد لارتكاب مجازر في المحافظة، وخصوصاً بعد المجزرة التي ارتكبتها الجبهة بحق أهالي بلدة "قلب لوزة" (إحدى القرى الدرزية الواقعة قرب بلدة حارم القريبة من الحدود السورية التركية في ريف إدلب الشمالي). كما افتعل النظام الفتن مع البدو على أطراف المحافظة، عبر عمليات الخطف المتبادلة مع بعض القرى الدرزية القريبة منها.
أما فصائل المعارضة، حاولت تهدئة مخاوف أهل السويداء عبر استبعاد "جبهة النصرة" من المشاركة في عملية مطار الثعلة، وبعث رسائل عدة لتطمين لأهلها، لكن رسائلها ظلّت ضعيفة.
كما أنّ المعارضة لم تؤسس من قبل علاقة وطيدة مع القوى الفاعلة في السويداء، يمكن أن تكون لها ظهيراً عند الحاجة. والأسوأ من ذلك، أنّ بعض أنصار المعارضة انجرفوا في سيل من الاتهامات المبّطنة ومنها الصريحة لأهالي السويداء بـ"التواطؤ مع النظام"، من دون بذل جهود كافية لتفهّم الحساسيات والتباينات الموجودة داخل المجتمع الدرزي الذي يتعرض لتأثيرات قوى شتى محلية وإقليمية.
الطرف الثالث الذي حاول النظام التعامل معه بنوع من غض الطرف، تمثل في الشخصيات الدينية المسلحة والتي عُرفت بـ"تجمع رجال الكرامة"، والتي تشكلت في محافظة السويداء كفصائل مسلحة لا تقاتل مع النظام، وهدفها الوحيد حماية الطائفة. وعلى الرغم من بعض الصدامات والمواقف العدائية للنظام التي صدرت عن هذا الفصيل، سمح النظام بوجودها ضمن مناطق نفوذه، لأنها كانت تقوم بدور مهم في تأجيج النزعة الطائفية التي يسعى النظام إلى تكريسها.
أمّا الطرف الرابع الذي حاول التأثير على المحافظة، هو بعض القوى والشخصيات الدرزية خارج سورية، وتحديداً لبنان. وبرز اتجاهان لبنانيان، يقوده الأول الوزير السابق وئام وهاب، الذي ركّز على ضرورة تسليح دروز سورية، وضرورة تحالفهم مع جيش النظام السوري. أمّا الاتجاه الثاني الذي يقوده النائب اللبناني وليد جنبلاط الذي طالب بوضع الدروز أيديهم بأيدي "إخوانهم في درعا والعمل معاً على إسقاط النظام، لأن جيرانهم هم الأبقى لهم، ولن ينفعهم أحد إن ساءت علاقتهما".
اقرأ أيضاً: إسرائيل ترسم خريطة اللاعبين في سورية... وتوصيات بـ"سياسة نشطة"