19 أكتوبر 2019
السوريون ينتظرون غودو
هو زمن اللاسؤال واللاجواب، هو الزمن الأكثر عبثية وسخرية لكل السوريين، أينما كانوا.
لا شيء يحدث ولا أحد يجيء، والسوريون يعيشون حياة الشخصيات الإشكالية الخمس لصموئيل بيكيت بكل تفاصيلها، ويتبادلون الأدوار يوما بعد يوم.
هي الحرب الطويلة بكل فوضاها وتحولاتها غير المتوقعة، أصابت السوريين بالعجز، حتى عن تخيل ما سيحمله الغد القريب، فكيف إذا جازفت بسؤالهم عن المستقبل.
إنها حياة "اللامنطق" في عالم يتظاهر بالمنطق، بينما يعج داخله بفوضى مرعبة؛ الخوف والإحساس بانعدام الأمن والهامشية، على الرغم من وجود وعي ذاتي بكل التفاصيل، ذلك التشرد داخل البلاد قبل الضياع خارجها، ليرضخ الجميع لهذا الانتظار، كاستسلام للزمن، أو في محاولة للتغيير فيه، لعلّه يكون قابلاً لأن يُعاش أو يسكن. وقد يكون هذا الانتظار طريقة أخرى، لنمرر بها الزمن عندما يحاصرنا اللامعنى، أو عندما تبدأ مراحل اللاتاريخ، ونكون عاجزين حتى عن الانتحار. فما الذي ننتظره نحن السوريين؟ هل علينا أن نقبل الاستمرار بالحياة، على الرغم من كل هذا العجز الذي لا خلاص له؟ أم علينا أن نحاول إنقاذ من تبقى وما تبقى؟ ومِمَّ ننقذه؟ ومن هو عدونا الآن؟ الموت أم العدم أم العجز؟ أو هو ربما القدر؟ لا خيار لدينا الآن سوى تمرير الوقت أو الانتظار الذي سيكشف عن خراب هذا الوجود. وقد قال بيكيت نفسه "في فعل الانتظار، نجرّب مرور الزمن في شكله الأنقى".
ربما كانت سورية، الآن، مجرد خشبة مسرح كبيرة، تلعب فوقها الشخصيات بذات اللامنطق واللازمن اللذين كانا يغلفان أجواء مسرحية بيكيت الشهيرة "في انتظار غودو".
خلال ساعات الانتظار، يثرثر بطلا بيكيت الرئيسيان ثرثرة طويلة جوفاء، من دون أن يسمع أحدهما الآخر. لكل منهما (منّا) طريقته في الثرثرة، ولكل منهما منطق مختلف ومخاوف مختلفة. ينضمّ إليهما شخصان آخران؛ سيد قوي متسلط يحمل في داخله بوادر انهياره، يمسك بيده حبلا يقود به عبدا ضعيفا يحمل عتاد السيد، لكنه رجل مفكّر لا يشغّل عقله إلا بإذن من سيده الذي يستمد قوّته من فكر العبد الضعيف.
آخر الشخصيات هو ذاك الرسول الذي يأتي كل يوم، ليوصل رسالة غودو بأنه لا يستطيع المجيء هذا اليوم، وأنه لن يخلف بوعده غدا. لكن هذه الرسالة تتكرر كل يوم لتلقى ردود الأفعال نفسها، مع الأسئلة نفسها التي تبقى دائما بلا إجابة.
هؤلاء هم نحن السوريين جميعا، في هذا المكان بالذات من العالم، وفي هذا الزمن بالتحديد، نثرثر الآن بلا جدوى، ونعيش قلقنا كل على طريقته، نمرر الزمن بأساليب مختلفة، نجمّل تضحياتنا باستعراضها علنا، نغلف موتنا بأسماء جميلة في محاولة للسخرية من الحياة. قد نبتعد عن تلك البقعة المقدسة التي تسمى سورية، لكننا نكتشف، في كل لحظة، أننا ما زلنا هناك، تتنوع آلامنا ومآسينا. لكن، ما يجمعنا فقط هو الانتظار، ذاك النعش الذي نحمله على ظهورنا ونسميه الأمل، ونصرّ دائما على أن نرقد فيه.
حتى تلك الأغنية في مسرحية بيكيت، والتي تتحدث عن كلب سرق خبزاً لأنه جائع، لكن صاحبه ظل يضربه حتى الموت، توصّف حالنا أيضا؛ عندما عوقبنا بالتعذيب حتى الموت، لأننا تجرأنا وحاولنا إشباع جوع أرواحنا للحرية.
لكن المصيبة أن غودو في مسرحية بيكيت لا يأتي. وكل منا كان قد رسم ملامح غودو "المخلّص" بطريقته، وكل منا استهلك كل طاقاته، ليقنع الآخرين بأنه واثق بأن غودو الذي ينتظره لن يخلف في موعده وسيأتي، لكنه لم يحدد زمن قدومه، فأبقانا عالقين. وفي الانتظار اختلفنا.. وتقاتلنا، وأخرجنا مع طول المدة كل ما في ذواتنا من قوة وتسلط ووحشية وضعف وهشاشة...لكننا جميعا ما زلنا.. وسنبقى .. ننتظر.
لا شيء يحدث ولا أحد يجيء، والسوريون يعيشون حياة الشخصيات الإشكالية الخمس لصموئيل بيكيت بكل تفاصيلها، ويتبادلون الأدوار يوما بعد يوم.
هي الحرب الطويلة بكل فوضاها وتحولاتها غير المتوقعة، أصابت السوريين بالعجز، حتى عن تخيل ما سيحمله الغد القريب، فكيف إذا جازفت بسؤالهم عن المستقبل.
إنها حياة "اللامنطق" في عالم يتظاهر بالمنطق، بينما يعج داخله بفوضى مرعبة؛ الخوف والإحساس بانعدام الأمن والهامشية، على الرغم من وجود وعي ذاتي بكل التفاصيل، ذلك التشرد داخل البلاد قبل الضياع خارجها، ليرضخ الجميع لهذا الانتظار، كاستسلام للزمن، أو في محاولة للتغيير فيه، لعلّه يكون قابلاً لأن يُعاش أو يسكن. وقد يكون هذا الانتظار طريقة أخرى، لنمرر بها الزمن عندما يحاصرنا اللامعنى، أو عندما تبدأ مراحل اللاتاريخ، ونكون عاجزين حتى عن الانتحار. فما الذي ننتظره نحن السوريين؟ هل علينا أن نقبل الاستمرار بالحياة، على الرغم من كل هذا العجز الذي لا خلاص له؟ أم علينا أن نحاول إنقاذ من تبقى وما تبقى؟ ومِمَّ ننقذه؟ ومن هو عدونا الآن؟ الموت أم العدم أم العجز؟ أو هو ربما القدر؟ لا خيار لدينا الآن سوى تمرير الوقت أو الانتظار الذي سيكشف عن خراب هذا الوجود. وقد قال بيكيت نفسه "في فعل الانتظار، نجرّب مرور الزمن في شكله الأنقى".
ربما كانت سورية، الآن، مجرد خشبة مسرح كبيرة، تلعب فوقها الشخصيات بذات اللامنطق واللازمن اللذين كانا يغلفان أجواء مسرحية بيكيت الشهيرة "في انتظار غودو".
خلال ساعات الانتظار، يثرثر بطلا بيكيت الرئيسيان ثرثرة طويلة جوفاء، من دون أن يسمع أحدهما الآخر. لكل منهما (منّا) طريقته في الثرثرة، ولكل منهما منطق مختلف ومخاوف مختلفة. ينضمّ إليهما شخصان آخران؛ سيد قوي متسلط يحمل في داخله بوادر انهياره، يمسك بيده حبلا يقود به عبدا ضعيفا يحمل عتاد السيد، لكنه رجل مفكّر لا يشغّل عقله إلا بإذن من سيده الذي يستمد قوّته من فكر العبد الضعيف.
آخر الشخصيات هو ذاك الرسول الذي يأتي كل يوم، ليوصل رسالة غودو بأنه لا يستطيع المجيء هذا اليوم، وأنه لن يخلف بوعده غدا. لكن هذه الرسالة تتكرر كل يوم لتلقى ردود الأفعال نفسها، مع الأسئلة نفسها التي تبقى دائما بلا إجابة.
هؤلاء هم نحن السوريين جميعا، في هذا المكان بالذات من العالم، وفي هذا الزمن بالتحديد، نثرثر الآن بلا جدوى، ونعيش قلقنا كل على طريقته، نمرر الزمن بأساليب مختلفة، نجمّل تضحياتنا باستعراضها علنا، نغلف موتنا بأسماء جميلة في محاولة للسخرية من الحياة. قد نبتعد عن تلك البقعة المقدسة التي تسمى سورية، لكننا نكتشف، في كل لحظة، أننا ما زلنا هناك، تتنوع آلامنا ومآسينا. لكن، ما يجمعنا فقط هو الانتظار، ذاك النعش الذي نحمله على ظهورنا ونسميه الأمل، ونصرّ دائما على أن نرقد فيه.
حتى تلك الأغنية في مسرحية بيكيت، والتي تتحدث عن كلب سرق خبزاً لأنه جائع، لكن صاحبه ظل يضربه حتى الموت، توصّف حالنا أيضا؛ عندما عوقبنا بالتعذيب حتى الموت، لأننا تجرأنا وحاولنا إشباع جوع أرواحنا للحرية.
لكن المصيبة أن غودو في مسرحية بيكيت لا يأتي. وكل منا كان قد رسم ملامح غودو "المخلّص" بطريقته، وكل منا استهلك كل طاقاته، ليقنع الآخرين بأنه واثق بأن غودو الذي ينتظره لن يخلف في موعده وسيأتي، لكنه لم يحدد زمن قدومه، فأبقانا عالقين. وفي الانتظار اختلفنا.. وتقاتلنا، وأخرجنا مع طول المدة كل ما في ذواتنا من قوة وتسلط ووحشية وضعف وهشاشة...لكننا جميعا ما زلنا.. وسنبقى .. ننتظر.