01 مايو 2016
السوريون والتفريط بالمبادئ
كان لافتاً الكم الكبير من عبارات الإطراء والمديح التي أغدقت، أخيراً، للرئيس العراقي السابق، صدام حسين، ونظامه، عبر صفحات التواصل الاجتماعي من سوريين محسوبين على قوى الثورة والمعارضة، مع وفاة وزير خارجيته طارق عزيز. وكان لافتا أيضا الكم الكبير ممن يؤيدون أو يستحسنون أو يغضون الطرف عن جرائم وانتهاكات مخيفة بحق الناس، ترتكبها فصائل محاربة على الأرض، بحجة أن تلك الفصائل تقارع قوات النظام ومن يحارب معها. وقد كشفت النقاشات التي دارت، أخيراً، حول جريمة جبهة النصرة في قرية قلب لوزة الإدلبية، وراح ضحيتها 23 شخصا من طائفة الموحدين الدروز، النسبة المخيفة لهؤلاء المؤيدين والمبرّرين.. وكان لافتا حجم المؤيدين لتوقيف الإعلامي، أحمد منصور، في ألمانيا، والراغبين فعلا بتسليمه إلى السلطات المصرية، لمجرد خلافهم معه في الرأي والأسلوب. وكان لافتا انحياز هذا الكم الكبير من السوريين لطوائفهم وعشائرهم وقومياتهم، عندما تتعلق الأحداث بتلك الطوائف والقوميات. ومن يتابع النقاشات المتشنجة العمياء التي دارت وتدور بين سوريين عرب وكرد بمناسبة ما يحدث في المناطق المشتركة (عين العرب، تل أبيض، الحسكة...)، يدرك أبعاد ما أقول.
تؤشر تلك الظواهر، بالحجم الذي ظهرت عليه، وبمستوى المساهمين بها (صحفيين وكتاب ومثقفين..)، إلى شيء خطير بأبعاده ونتائجه، عميق التأثير، باهظ الثمن، هو تفريط نسبة كبيرة من السوريين بالمبادئ.
صحيح أن واقع السوريين بالغ البؤس والقسوة، وأن الحرب الشاملة عليهم استطالت إلى درجة يصعب على شعب احتمالها، مع تعدد المجرمين والقتلة وتنوعهم وإبداعهم في فنون العنف وأساليب القتل. وصحيح أن جميع الأبواب موصدة في وجوههم، والنفق مظلم أمامهم، والأمل شبه معدوم، أقله على المدى القصير. وصحيح أن العالم تخلى عنهم، بل ساهم، بشكل أو بآخر، في تعميق مأساتهم. وصحيح أن المعارضة خذلتهم، وساهمت في تمكين أعدائهم. ذلك كله صحيح، لكن الصحيح، أيضاً، أن التضحية بالمبادئ لا تقدم حلا، ولا تخفف بؤسا، بل هي بالتأكيد ستضيف إلى مأساة السوريين أبعادا جديدة، وتطيل إقامتها بينهم، وتمنحها فرصا أكبر للتخريب.
أما المبادئ، بالمعنى الذي تقصده هذه المقالة، فهي الركائز التي تقوم عليها قيم الدولة الوطنية الحديثة، ومنها الحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة، وهذه القيم لا يمكن إلا أن تكون عامة ومجردة وسامية، وهذه هي ركائزُها أو مبادئها، فهي تأبى التجزئة والانتقائية والاستنساب والتخصيص والتجاهل وغض النظر، تحت طائلة هدرها، فإما أن تكون للجميع بالمستوى نفسه، أو لا تكون لأحد.
والآن، ثمة جرائم ترتكب بحق القيم والمبادئ في سورية، وعلى نطاق واسع، وهي لا تقل بشاعة عما يرتكب من جرائم بحق البلد وأهله، لأن غياب المبادئ يؤسس لفصول جديدة ومديدة من الانتهاكات والجرائم بحق البشر، لأنها هي المؤهلة دون سواها لوضع نهاية لهذه الفصول المأسوية من تاريخ البلد، وهي الضامن لانطلاق ورشة بناء الدولة الصحيحة، عندما يحين موعدها، وبالتالي، نحن نضحي بهذا الضامن، أو صمام الأمان إذا شئتم.
والنتائج الكارثية للتفريط بالمبادئ تكون على مستويين، الخاص (مستوى المفرطين) والعام (مستوى الدولة والمجتمع)، فعلى مستوى المفرطين، وهم عادة ما يكونون في وضع ظرفي مؤقت يسمح لهم بالتفريط، أو أن آثار التفريط الآنية تصيب المختلفين عنهم، كأن نغض النظر عن جريمة إنسانية ترتكب بحق أتباع مذهب معين غير مذهبنا، أو قومية معينة غير قوميتنا. فهؤلاء لا يدركون أن الظرف الآني الذي منحهم هذه الميزة التفضيلية، وجعلهم يستخفون بالمبادئ، ويستسهلون التفريط بها، طالما أن المصاب يقع على غيرهم، قد يتغير عاجلا أم آجلا، ويصبحون هم أنفسهم موضوعا للتفريط يوماً، وضحية لغياب المبادئ التي ساهموا بتغييبها، وسيستمتع أعداؤهم حينها بالنيل منهم، وهكذا حتى يصبح الجميع بدون استثناء موضوعا وضحية لهذا التفريط.
قال المفكر الكبير إلياس مرقص ما معناه:" لو كان 99% من البشر في مجتمع ما ينالون حقوقهم كاملة، وكان 1% من البشر ينالون 99% من حقوقهم، والنسبة الباقية يُعتدى عليها (1% من حقوق 1% من البشر)، فهذا يعني أن حقوق الجميع مهددة وبسرعة". وواضح أن مرقص يريد القول إن قبولنا بهدر جزء بسيط من حقوق هذه النسبة الضئيلة من البشر يعني أننا غير حاسمين في مسألة الدفاع عن المبادئ، وأن تساهلنا هذا سينعكس علينا وعلى الجميع، عاجلا أم آجلا.
أما نتائج التفريط على المستوى العام، مستوى الدولة والمجتمع، فهي ما أشرنا إليه أعلاه، من أننا نضحي بضمانات وأسس بناء دولة وطنية حديثة راسخة الجذور، وسنعيد إنتاج أنظمة مستبدة مشوهة من نوع آخر.
من هنا، إن من خرج ضد الأسد ونظامه، ثم لا يدخر مناسبة إلا ويبدي فيها تقديره صدام حسين، ويشيد بعظمته، فهو لم يخرج ضد الأسد الطاغية المستبد، ولا خرج من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل على الأرجح خرج ضد الأسد العلوي، أي لأسباب طائفية محضة، ولو كان صدام هو الحاكم وبالقدر نفسه من الوحشية لما فكر بالخروج.
ومن خرج ضد الأسد لأنه يرتكب جرائم بحق شعبه، ثم لا يجد غضاضة في تبرير مجزرة ترتكبها جبهة النصرة ضد مدنيين، أو في تبرير قصف زهران علوش أحياء سكنية في دمشق، أو لا يمانع في إعدام أسرى الفريق الآخر والتمثيل بجثثهم، ويهلل لذبح مدنيين من طائفة مختلفة، ويدعم تهجير مواطنين من قومية مختلفة، فهو يريد حصرا رأس الأسد، فقط لأنه الأسد، ولا تعنيه كل قضية الإجرام والانتهاكات والاعتداء على حياة الآخرين وحقوقهم، ولا يعرف (أو يعرف ولا يبالي)، أن مواقفه ستفرخ أسودا أخرى بألوان مختلفة.
لا يمكن لصاحب مبدأ أن يقف ضد نظام دكتاتوري هنا، ويؤيد نظاما دكتاتوريا هناك، أو أن يناضل من أجل حرية شعب هنا، ويدعم عدوا للحرية هناك، أو أن يكون مع الديمقراطية هنا، ومع الاستبداد هناك، أو ينتصر لحقوق الإنسان الذي يعنيه، ولا يبالي بانتهاك حقوق من لا يعنيه.
لن نحلم بالحرية إذا لم نردها لنا ولغيرنا، فالحرية تكون للجميع بالمقدار نفسه، أو لا تكون لأحد، ولن نضمن حقوقنا كبشر، إذا لم نكن مستعدين للدفاع عن حقوق الآخرين، كدفاعنا عن حقوقنا، فحقوق الإنسان تكون للجميع بالمقدار نفسه، أو لا تكون لأحد، ولن نحظى بالعدالة، إذا لم نرفض ظلم الآخرين، فالعدالة تكون للجميع بالمقدار نفسه، أو لا تكون لأحد، ولن تصان كرامتنا إذا استخففنا بكرامة الآخرين، فهذه المسائل، كما ذكرنا، لا تجتزأ ولا تبتسر ولا تختصر ولا تخصص، ولا تُوزن بميزانين، ولا تُرى بمنظارين، وإلا فنحن لم نتعلم شيئا من كل ما حل بنا، ونحن غير مؤهلين، فعلاً، لتأسيس وصيانة منظومة من الحقوق والحريات، تنقلنا إلى عالم أفضل، وسنعيد إنتاج الاستبداد بألف طريقة، إذ لا شيء سيمنعنا من غض الطرف عن تسلل مظاهره، لمبررات لن نعجز عن اختراعها، طالما أن المبادئ لا تستحكم بنا.
قالها فولتير منذ ثلاثة قرون، في دفاعه عن حرية الرأي والتعبير: "قد أختلف معك في الرأي، لكنني أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك". هكذا تكون المبادئ، وهكذا تُفهم.
أيها السوريون: لا تفرّطوا بالمبادئ، لأنكم إنما تفرّطون بفرص تصفية الاستبداد والتخلف والفوات، وتفرّطون بأسس قيام دولتكم الجديدة، وتفرّطون بحقكم وحق أبنائكم في حياة حرة كريمة.
تؤشر تلك الظواهر، بالحجم الذي ظهرت عليه، وبمستوى المساهمين بها (صحفيين وكتاب ومثقفين..)، إلى شيء خطير بأبعاده ونتائجه، عميق التأثير، باهظ الثمن، هو تفريط نسبة كبيرة من السوريين بالمبادئ.
صحيح أن واقع السوريين بالغ البؤس والقسوة، وأن الحرب الشاملة عليهم استطالت إلى درجة يصعب على شعب احتمالها، مع تعدد المجرمين والقتلة وتنوعهم وإبداعهم في فنون العنف وأساليب القتل. وصحيح أن جميع الأبواب موصدة في وجوههم، والنفق مظلم أمامهم، والأمل شبه معدوم، أقله على المدى القصير. وصحيح أن العالم تخلى عنهم، بل ساهم، بشكل أو بآخر، في تعميق مأساتهم. وصحيح أن المعارضة خذلتهم، وساهمت في تمكين أعدائهم. ذلك كله صحيح، لكن الصحيح، أيضاً، أن التضحية بالمبادئ لا تقدم حلا، ولا تخفف بؤسا، بل هي بالتأكيد ستضيف إلى مأساة السوريين أبعادا جديدة، وتطيل إقامتها بينهم، وتمنحها فرصا أكبر للتخريب.
أما المبادئ، بالمعنى الذي تقصده هذه المقالة، فهي الركائز التي تقوم عليها قيم الدولة الوطنية الحديثة، ومنها الحرية والمساواة والعدالة وسيادة القانون وحقوق الإنسان والمواطنة، وهذه القيم لا يمكن إلا أن تكون عامة ومجردة وسامية، وهذه هي ركائزُها أو مبادئها، فهي تأبى التجزئة والانتقائية والاستنساب والتخصيص والتجاهل وغض النظر، تحت طائلة هدرها، فإما أن تكون للجميع بالمستوى نفسه، أو لا تكون لأحد.
والآن، ثمة جرائم ترتكب بحق القيم والمبادئ في سورية، وعلى نطاق واسع، وهي لا تقل بشاعة عما يرتكب من جرائم بحق البلد وأهله، لأن غياب المبادئ يؤسس لفصول جديدة ومديدة من الانتهاكات والجرائم بحق البشر، لأنها هي المؤهلة دون سواها لوضع نهاية لهذه الفصول المأسوية من تاريخ البلد، وهي الضامن لانطلاق ورشة بناء الدولة الصحيحة، عندما يحين موعدها، وبالتالي، نحن نضحي بهذا الضامن، أو صمام الأمان إذا شئتم.
والنتائج الكارثية للتفريط بالمبادئ تكون على مستويين، الخاص (مستوى المفرطين) والعام (مستوى الدولة والمجتمع)، فعلى مستوى المفرطين، وهم عادة ما يكونون في وضع ظرفي مؤقت يسمح لهم بالتفريط، أو أن آثار التفريط الآنية تصيب المختلفين عنهم، كأن نغض النظر عن جريمة إنسانية ترتكب بحق أتباع مذهب معين غير مذهبنا، أو قومية معينة غير قوميتنا. فهؤلاء لا يدركون أن الظرف الآني الذي منحهم هذه الميزة التفضيلية، وجعلهم يستخفون بالمبادئ، ويستسهلون التفريط بها، طالما أن المصاب يقع على غيرهم، قد يتغير عاجلا أم آجلا، ويصبحون هم أنفسهم موضوعا للتفريط يوماً، وضحية لغياب المبادئ التي ساهموا بتغييبها، وسيستمتع أعداؤهم حينها بالنيل منهم، وهكذا حتى يصبح الجميع بدون استثناء موضوعا وضحية لهذا التفريط.
قال المفكر الكبير إلياس مرقص ما معناه:" لو كان 99% من البشر في مجتمع ما ينالون حقوقهم كاملة، وكان 1% من البشر ينالون 99% من حقوقهم، والنسبة الباقية يُعتدى عليها (1% من حقوق 1% من البشر)، فهذا يعني أن حقوق الجميع مهددة وبسرعة". وواضح أن مرقص يريد القول إن قبولنا بهدر جزء بسيط من حقوق هذه النسبة الضئيلة من البشر يعني أننا غير حاسمين في مسألة الدفاع عن المبادئ، وأن تساهلنا هذا سينعكس علينا وعلى الجميع، عاجلا أم آجلا.
أما نتائج التفريط على المستوى العام، مستوى الدولة والمجتمع، فهي ما أشرنا إليه أعلاه، من أننا نضحي بضمانات وأسس بناء دولة وطنية حديثة راسخة الجذور، وسنعيد إنتاج أنظمة مستبدة مشوهة من نوع آخر.
من هنا، إن من خرج ضد الأسد ونظامه، ثم لا يدخر مناسبة إلا ويبدي فيها تقديره صدام حسين، ويشيد بعظمته، فهو لم يخرج ضد الأسد الطاغية المستبد، ولا خرج من أجل الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بل على الأرجح خرج ضد الأسد العلوي، أي لأسباب طائفية محضة، ولو كان صدام هو الحاكم وبالقدر نفسه من الوحشية لما فكر بالخروج.
ومن خرج ضد الأسد لأنه يرتكب جرائم بحق شعبه، ثم لا يجد غضاضة في تبرير مجزرة ترتكبها جبهة النصرة ضد مدنيين، أو في تبرير قصف زهران علوش أحياء سكنية في دمشق، أو لا يمانع في إعدام أسرى الفريق الآخر والتمثيل بجثثهم، ويهلل لذبح مدنيين من طائفة مختلفة، ويدعم تهجير مواطنين من قومية مختلفة، فهو يريد حصرا رأس الأسد، فقط لأنه الأسد، ولا تعنيه كل قضية الإجرام والانتهاكات والاعتداء على حياة الآخرين وحقوقهم، ولا يعرف (أو يعرف ولا يبالي)، أن مواقفه ستفرخ أسودا أخرى بألوان مختلفة.
لا يمكن لصاحب مبدأ أن يقف ضد نظام دكتاتوري هنا، ويؤيد نظاما دكتاتوريا هناك، أو أن يناضل من أجل حرية شعب هنا، ويدعم عدوا للحرية هناك، أو أن يكون مع الديمقراطية هنا، ومع الاستبداد هناك، أو ينتصر لحقوق الإنسان الذي يعنيه، ولا يبالي بانتهاك حقوق من لا يعنيه.
لن نحلم بالحرية إذا لم نردها لنا ولغيرنا، فالحرية تكون للجميع بالمقدار نفسه، أو لا تكون لأحد، ولن نضمن حقوقنا كبشر، إذا لم نكن مستعدين للدفاع عن حقوق الآخرين، كدفاعنا عن حقوقنا، فحقوق الإنسان تكون للجميع بالمقدار نفسه، أو لا تكون لأحد، ولن نحظى بالعدالة، إذا لم نرفض ظلم الآخرين، فالعدالة تكون للجميع بالمقدار نفسه، أو لا تكون لأحد، ولن تصان كرامتنا إذا استخففنا بكرامة الآخرين، فهذه المسائل، كما ذكرنا، لا تجتزأ ولا تبتسر ولا تختصر ولا تخصص، ولا تُوزن بميزانين، ولا تُرى بمنظارين، وإلا فنحن لم نتعلم شيئا من كل ما حل بنا، ونحن غير مؤهلين، فعلاً، لتأسيس وصيانة منظومة من الحقوق والحريات، تنقلنا إلى عالم أفضل، وسنعيد إنتاج الاستبداد بألف طريقة، إذ لا شيء سيمنعنا من غض الطرف عن تسلل مظاهره، لمبررات لن نعجز عن اختراعها، طالما أن المبادئ لا تستحكم بنا.
قالها فولتير منذ ثلاثة قرون، في دفاعه عن حرية الرأي والتعبير: "قد أختلف معك في الرأي، لكنني أدفع حياتي ثمنا لحقك في التعبير عن رأيك". هكذا تكون المبادئ، وهكذا تُفهم.
أيها السوريون: لا تفرّطوا بالمبادئ، لأنكم إنما تفرّطون بفرص تصفية الاستبداد والتخلف والفوات، وتفرّطون بأسس قيام دولتكم الجديدة، وتفرّطون بحقكم وحق أبنائكم في حياة حرة كريمة.