بمعنى أوضح، لا أعتقد أن بعض "العرب" أو بشكل أدق قادتهم، إن في مصر والإمارات أو السعودية والسودان والبحرين ولبنان، مضطرون لتحميل اللاجئين السوريين أسباب مآسيهم وعرج اقتصاداتهم، وأن مصالحهم القومية تقتضي ترحيل السوريين، لتحقق بلدانهم نسب النمو والازدهار التي يقف السوريون حجر عثرة في طريقها.
وذلك ليس لاعتبار إنساني لأن السوريين هربوا من الموت والمعتقلات، ولا ملاذ لهم إلا أبناء جلدتهم، بل ولا حتى لأسباب "سياسية أخلاقية" على اعتبار أن قادة تلك الدول ساهموا بحرف ثورة السوريين، عبر دعمهم الأطراف الخاطئة وتبجحهم لسنوات، أنهم إلى جانب حقوق الشعب وسيسقطون نظام الأسد.
وإنما لاعتبار المصالح التي تنطلق منها تلك الدول، والتي بدأت تتزايد اليوم، مع بدء إعادة التطبيع مع الأسد ومحاولات تبرير جرائمه وطلب الغفران، لتعيد علاقاتها الدبلوماسية مع نظامه وتعيده إلى حظيرة الجامعة العربية، وتعيد من على أراضيها قسراً، لتمده بنسب صناديق الانتخابات، قبل مسرحية الدستور وإعادة الانتخابات التي تشتغل عليها روسيا برعاية أممية ودعم عروبي.
فالسوريون وبالأرقام، لم يبددوا ثروات الدول المضيفة لهم ويستهلكوا إنتاجها ومقدراتها، هذا إن فرضنا جدلاً، أن تلك الدول فتحت حدودها لهم، وخاصة السعودية والإمارات، اللتين ومنذ سنوات الثورة السورية الثماني، لا تسمحان بدخول السوريين من دون "فيزا".
باختصار، ظهرت مع مطلع العام الجديد، مساهمة اللاجئين السوريين باقتصادات الدول التي تستضيفهم، وبيّنت بيانات تلك الدول، عدد الشركات التي أنشأها السوريون ومساهماتهم بالنمو وتأمين فرص عمل، بل حتى خلقهم أنماط إنتاج واستهلاك، عززت من دور تلك الدول، إن بتحسين واقع المعيشة لمواطنيها أم بصادراتها التي دخل إنتاج السوريين ضمن تركيبتها، وإن كان تحت اسم تلك الدول.
على سبيل المثال، في تركيا التي تستقبل العدد الأكبر من اللاجئين السوريين والمقدر بنحو 3.5 ملايين، والتي للأمانة التاريخية، أنفقت على السوريين 31 مليار يورو، ولم تزل، حتى تاريخه، ترحب بالسوريين على أراضيها وتقدم لهم التسهيلات والإعفاءات ليزيد السوريون من أعمالهم.
وتشير إحصاءاتها الرسمية، إلى أن السوريين أسسوا نحو 10 آلاف شركة منذ نزوحهم عام 2011، بل يتصدرون قائمة الاستثمار الخارجي وبطاقات العمل في تركيا للعام الثالث على التوالي، فضلاً عن دعمهم الأسواق التركية بمئات الآلاف من العمال في قطاعات الألبسة والنسيج والمواد الغذائية والتصنيع، والغالبية العظمى منهم يتقاضون أجوراً منخفضة عن الحد الأدنى للأجور المحدد للعمال الأتراك.
أما في البلاد العربية، والتي نبدأها من لبنان، على أنها الأكثر استضافة للسوريين، بنحو 1.1 مليون لاجئ، فغالبية اللاجئين يقيمون في المدن وليس المخيمات، أي رفعوا أسعار الإيجارات ويستهلكون من الإنتاج المحلي ويساهمون في دورة الاقتصاد.
وربما اللافت والجدير بالذكر والاعتراف، أن لبنان منح جنسية لكبار رجال الأعمال السوريين خلال سنوات الثورة، ونقل هؤلاء منشآتهم إلى لبنان وأموالهم إلى مصارفها.
هذا إن لم نأت على دور المساعدات التي يتلقاها السوريون من الأمم المتحدة، وأثرها على تنشيط الأسواق وتحريك الاقتصاد، أو لما ساهمت به العمالة السورية الرخيصة، بالإعمار والخدمات في القطر اللبناني، أو حتى ما فعله لقاء اللاجئين بأسرهم الوافدة إلى لبنان من تركيا والخليج وأوروبا، من تنشيط للسياحة وشركات الطيران والأسواق.
أما في مصر التي تستضيف نحو 500 ألف سوري، فتبين تقارير دولية "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" أن مساهمة السوريين في الاقتصاد المصري تعدت 800 مليون دولار على شكل استثمارات، بل أمنت منشآت ومصانع السوريين في مصر، فرص عمل حتى لعاطلين مصريين، وساهم إنتاج منشآت السوريين بزيادة الصادرات وتقليص الواردات، أي بلغة الاقتصاد، قلّص السوريون من نسبة عجز الميزان التجاري المصري.
وبحسب بيانات وزارتي الاستثمار والتعاون الدولي والتجارة والصناعة المصريتين، شكلت الشركات السورية ربع عدد الشركات الأجنبية المؤسسة في مصر خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2018. وأسس السوريون خلال تلك الفترة، 818 شركة جديدة في مصر برأسمال قدره 69.93 مليون دولار، أي ما يعادل 1.25 مليار جنيه، كما زادت التدفقات.
والحال ينسحب على السودان الذي دشّن رئيسه عمر البشير، زيارات التطبيع العربي مع نظام الأسد، وإن بشكل أكبر، على اعتبار أن السودان لم يفرض، حتى تاريخه، تأشيرة على دخول السوريين أراضيه. إذ تقدر الإحصائيات الرسمية السودانية أن عدد المستثمرين السوريين الذين دخلوا إلى السودان بعد اندلاع الثورة السورية بنحو 3000 رجل أعمال، ركزوا استثماراتهم بشكل أساسي في مجال صناعة البلاستيك، والاستثمارات الزراعية، والموادّ الغذائية وقطاع المطاعم بالإضافة إلى الملبوسات.
واحتلت الاستثمارات السورية المرتبة الثانية في السودان، والتي أمنت إنتاجاً مطلوباً للأسواق وفائضاً للتصدير وشغّلت عشرات آلاف السودانيين العاطلين.
وكذلك بالنسبة لمساهمة السوريين في الاقتصاد الأردني، إذ بلغت قيمة الأثر المادي للسوريين في الأردن أربعة مليارات دولار سنوياً و20% من النمو الكلي في المملكة، وأيضاً بالنسبة للاقتصاد الإماراتي الذي كان أول من استقطب أموال وأقرباء بشار الأسد الذين استثمروا وأودعوا المليارات هناك.
نهاية القول، مع الإقرار بفضل بعض الدول التي آوت اللاجئين في أوقات عصيبة، بيد أن السوريين لم يكونوا عالة على الدول المضيفة، إذ ربما الأهم من أموال السوريين التي تم استثمارها في الدول العربية، تلك العقول والخبرات التي رفدت تلك الدول، والتي -القيمة العلمية لشريحة واسعة من السوريين الأكاديميين والمثقفين- لا تأتي الدراسات عليها بذكر، فحبذا ومنذ بداية التطبيع وعودة الدول العربية إلى حضن الأسد، تبيان الأسباب الحقيقية للتكويع والتخاذل، وليس تحميل السوريين المنّة...لئلا تقتلوهم مرتين.