استمع إلى الملخص
- لم تتطرق الحكومة المصرية إلى قضايا رفع أسعار المحروقات والكهرباء أو تقديم خطة لتقييم تكلفة السلع الأساسية، مما أدى إلى توقف خبراء الصندوق عند عمليات الإهدار المالي وعدم مناقشة دعم الخبز والسلع الأساسية.
- تعاني السياسات الاقتصادية للحكومة من تضارب، حيث تؤدي إلى تصاعد التضخم وتدهور نمو القطاع الخاص، مع عدم الالتزام بخطة تقشفية مما يزيد العجز في تدفقات النقد الأجنبي.
تبدو المفاوضات بين مصر وصندوق النقد الدولي عند مفترق طرق، فلا الصندوق يوافق على المساس باتفاق إنقاذ مالي، وقعته الحكومة منذ 16 ديسمبر/ كانون الأول 2022 مقابل قرض بقيمة 8 مليارات دولار، ولا الحكومة المصرية تبدل سياساتها نحو إصلاح هيكلي شامل متفق عليه، وتظهر لبعثة المراجعة بصندوق النقد الموجودة بالقاهرة حالياً، ما تخفيه عن المواطنين. وقال خبراء على اطلاع بتفاصيل أعمال فريق المراجعة الرابعة للصندوق مع البنك المركزي ووزارة المالية والبترول والكهرباء والتموين، على مدار أسبوع، إن هناك غضباً مكبوتاً بين خبراء الصندوق، لعدم التزام الحكومة بجدول تنفيذ برنامج الإصلاح الهيكلي على مختلف المسارات، مقابل رغبة ملحة من مجلس الوزراء بمد أجل تخارج الشركات الحكومية والتابعة للأجهزة السيادية من الأنشطة المنافسة للقطاع الخاص، وإسناد مشروع حوكمة البنك المركزي لشركات مراجعة دولية تتولى إعادة تأهيله، وفقاً للمعايير المحاسبية والرقابية الدولية، بما يقيد سلطته المطلقة في طبع النقود، والتصرّف بإيداعات البنوك من العملة الصعبة، دون رقابة تحقق الشفافية في جميع تعاملاته.
تجنّب طرح بعض الملفات
أكد مصدر رفيع المستوى لـ"العربي الجديد" أن الحكومة لم تتطرق إلى قضية تأجيل رفع أسعار المحروقات والكهرباء المقررة زيادة أسعارها على عدة مراحل خلال الأشهر المقبلة، رغم مطالبة القيادة السياسية رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بإثارة الأمر مع بعثة الصندوق أثناء عملية المراجعة الرابعة، بعد أن فشلت الحكومة في تقديم خطة واضحة حول أسس تقييم تكلفة أسعار الكهرباء والمحروقات والسلع التموينية والخبز، سواء على أساس بيع السلعة في الأسواق الدولية، أو تكلفة مدخلات الإنتاج.
وأوضح المصدر، الذي فضل عدم ذكر اسمه، أن الحكومة غير راغبة في عرض تفاصيل عمليات تسعير الكهرباء والغاز والسولار والبنزين على خبراء الصندوق، بعد توقف خبراء الصندوق عند عمليات الإهدار المالي التي تجري في عمليات الإنتاج، وارتباط زيادة التكلفة بسلاسل واسعة من الوكلاء وتحميل المستهلكين قيمة تكاليف شبكات الفساد الإداري وحصص الكهرباء والمحروقات التي توجه لجهات سيادية وشركات تابعة لها، ولا تمكن الجهات المنتجة من استرداد قيمتها.
كما شدد المصدر على عدم تطرق المفاوضات إلى قضية دعم الخبز والسلع الأساسية، حيث اكتفت بعثة الصندوق بما عرضته الحكومة من التزامات، تظهر تراجع مصروفات الدعم السلعي، المقررة في الموازنة الحالية 2024/ 2025، بنحو 80 مليار جنيه، بعد مضاعفة سعر الخبز المدعم، وزيادة أسعار المحروقات على دفعتين منذ بداية العام المالي، بينما قال وزير التموين شريف فاروق في تصريحات صحافية إن صندوق النقد لم يتدخل في قضية تحويل الدعم السلعي إلى نقدي، مؤكداً أن التفضيل بينهما سيظل خياراً حكومياً.
وكانت الحكومة قد لجأت إلى إلغاء دعم الكهرباء بتطبيق "الدعم التبادلي" حيث تبيع الكهرباء بسعر مربح بقيمة 2.35 جنيه لشرائح عليا، مقابل توجيه جزء من الأرباح لدعم الشرائح الدنيا، في ظاهرة يصفها الخبير الاقتصادي مدحت نافع بـ"الدعم على طريقة روبين هود" الذي يسرق أموال الأغنياء ليهبها للفقراء، بما يخل بمبدأ العدالة والمساواة في حقوق المستهلكين.
صعوبة تبرير رفع أسعار الطاقة
أشار الخبير الاقتصادي ووكيل وزارة التجارة الأسبق، عبد النبي عبد المطلب، إلى عدم مناقشة خبراء الصندوق قضية الدعم، لأن الحكومة هي من قدمت خطة تفصيلية للصندوق، تحدد فيها سبل خفض الدعم، والمبالغ المستهدف تنزيلها من الموازنة العامة حتى 2026، بما يضمن خفض العجز السنوي بالموازنة المالية، متعهّدة بأن يكون لها تأثير محدود في الفقراء ومحدودي الدخل، مع شرح تفصيلي لتحويل الدعم العيني إلى نقدي، يدفع للمستحقين عبر برنامج تكافل وكرامة، ومبادرات أخرى تضمن رفع الحد الأدنى لغير القادرين على مواجهة أعباء المعيشة، بعد حصر أعدادهم بدقة، وإعداد مؤشر وطني لقياس الفقر وكشوف المستحقين للدعم، قبل حلول إبريل/ نيسان 2025.
وقال عبد المطلب لـ"العربي الجديد" إن الوزارات المعنية برفع أسعار الكهرباء والمحروقات، وجدت صعوبة في تبرير رفع أسعار البنزين والسولار، خلال الشهر الماضي، في ظل تراجع أسعار النفط عالمياً إلى 75 دولاراً للبرميل في المتوسط، بينما سجلت الحكومة التكلفة على متوسط سعر 90 دولاراً للبرميل، بما يظهر فائضاً في الموازنة التقديرية للجهات المنتجة، وخللاً في تقدير التكلفة للسلع، موضحاً أن الخلاف بين الطرفين يظل رهناً باتفاقهما (الحكومة والصندوق) حول خفض تكلفة التشغيل في الجهات الحكومية، وعدم إسناد المناقصات العامة بالأمر المباشر، ووقف إقامة مشروعات غير ربحية، وإيجاد مظلة موحدة وواضحة للمحتاجين للدعم، وعدم التفرقة بين القطاعات الحكومية والتابعة للأجهزة السيادية والقطاع الخاص، بما يلغي أية امتيازات تضيق على القطاع الخاص، وتحد من نموه ونشاطه.
كما توقعت مصادر مطلعة أن تنتهي المراجعة التي تديرها بعثة الصندوق مطلع الأسبوع المقبل بدون الإعلان عن نتيجة محددة للزيارة التي استغرقت 10 أيام، مع استمرار التفاوض بدون إظهار النجاح أو الفشل، لحين انعقاد مجلس مديري صندوق النقد في ديسمبر/كانون الأول المقبل، الذي سيتخذ بدوره قراره النهائي، إما باعتماد قيمة القسط الرابع المستحق، بمبلغ 1.3 مليار دولار من إجمالي القرض المقرر بنحو 8 مليارات دولار أو تأجيل دفع القسط، مع التزام مصر بتعهداتها بسداد 1.7 مليار دولار هي أقساط مستحقة للصندوق، وبحثها عن فرص بديلة لتمويل حاجتها إلى سداد نحو 3 مليارات دولار قيمة أقساط وخدمات دين مستحقة قبل نهاية العام.
نقاط خلاف مركزية مع صندوق النقد
وفي السياق، أشارت المصادر إلى أن وجود نقاط خلاف مركزية يستهدفها الصندوق، لم تنفذها الحكومة، تتعلق بطرح الشركات العامة، وخاصة المملوكة للجيش، للبيع، على مدار العامين الماضيين، ولجوء الأجهزة السيادية إلى إقامة شركات مساهمة تدير السيولة المالية الهائلة لتلك الشركات بعيداً عن الرقابة الشعبية والبرلمانية، وتزيد من تشرذم مداخيل الإيرادات العامة، بما يعمق مشكلة مبدأ وحدة الموازنة الذي يستهدف الصندوق العودة به، بإدخال جميع الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة وإيرادات الشركات العامة والسيادية، ضمن موارد وزارة المالية.
وأوضحت المصادر أن نقاط الخلاف تمتد إلى إدارة البنك المركزي خطة التشدد النقدي، بما يحول دون مرونة كاملة لسعر الصرف، ولجوئه إلى توفير الدولار للجهات الحكومية والشركات السيادية، بما يمنحها أفضلية عن القطاع الخاص، ويخل بمبدأ تكافؤ الفرص، وبما يحد من انسياب نموه، ويدفع إلى خفض مشاركته في الاستثمار إلى نحو 17%. ولفت الخبراء إلى أن الإعلان عن اتفاق حول استكمال القرض الكبير مع الصندوق، سيظل رهناً بصفقة سياسية ما بين الصندوق ومصر، غير مرتبطة ببرنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه منذ عامين، وإنما قد يأتي بوصفه خطة إنقاذ مرتبطة بمشروع سياسي في المنطقة، بعد وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض، والسعي إلى مواجهة أعباء الحرب المشتعلة في غزة ولبنان، وإحياء مسار اعتراف الدول العربية بإسرائيل.
ووفقاً للمصادر المطلعة، مارست بعثة الصندوق ضغوطاً كبيرة على إدارة البنك المركزي، لمنعها من زيادة طبع النقود دون غطاء، والالتزام ببرنامج حوكمة الإدارة، والحد من سحب الودائع بالدولار من البنوك، والتوجه نحو رفع الفائدة لجذب الأموال الساخنة، بما يزيد من صعوبة تراجع التضخم عند الحدود المستهدفة برقم فردي بنهاية العام المالي، ويحد من نمو القطاع الخاص الذي يعاني مع ارتفاع تكلفة الإقراض إلى أكثر من 30%. وبيّنت المصادر عدم التزام البنك المركزي بخطة طباعة النقود، بما يتعارض مع سياساته لسحب السيولة من البنوك للحد من التضخم.
تضارب سياسات حكومة مصر
في غضون ذلك، قال الخبراء إن الحكومة تدفع البنك المركزي في اتجاهين متعاكسين، أحدهما يستهدف رفع الأجور لمواجهة الغلاء لدى نخبة من الموظفين في الحكومة والعاملين في القطاع العام، وإلزام المركزي بطبع النقود لتوفير السيولة والتمويل، بينما ترفع أسعار المحروقات والسلع، وتصعد بالتضخم الذي لا يأتي من زيادة الطلب، وإنما لزيادة المعروض من النقود.
وقال الخبير الاقتصادي هاني توفيق لـ"العربي الجديد" إن تضارب السياسات الحكومية، يدفع إلى تدهور نمو القطاع الخاص، لحساب القطاع الحكومي الذي يسعى صندوق النقد إلى الحد من سطوته، وتأثيره على تعميق الأزمة الاقتصادية، ورأى أن ذلك تسبب في زيادة معدلات التضخم، وتراجع الناتج القومي مقوماً بالدولار. ولفت إلى أن تراجُع الحكومة عن طرح الشركات العامة في البورصة، أدى إلى بقاء الاستثمار عند مستوى متدن، وعند حدود 220 شركة، بما يحول دون تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر.
بدوره، أوضح نائب وزير التموين السابق والخبير الاقتصادي مدحت نافع لـ"العربي الجديد" أن الحكومة تغذي صعود التضخم برفع الأجور، وعدم اتباعها إجراءات تقشفية، وفقاً للخطة التي قدمتها لصندوق النقد، وتعهدت بها أمام البرلمان، مبيناً أن لجوئها إلى سحب الدولار من البنوك لتمويل المشتريات العامة، يجعل العجز في صافي تدفقات النقد الأجنبي بالسالب بنحو 143 مليون دولار، في حالة إزالة 10 مليارات دولار لصالح البنك المركزي. كما يؤكد نافع أن الحكومة تعهدت لصندوق النقد بأن توفر الدولار للموردين والمستثمرين ولكل من يطلبه، واتباع مرونة سعر الصرف.
وأكد أن الطلب على الدولار مشتق من طلب الحكومة لسداد الدين الخارجي الذي يستهلك 47.5% من إيرادات الموازنة العامة، واستيراد السلع، ومستلزمات الإنتاج. وخلص نافع إلى أن الحكومة تواجه مشكلة في حساب تكلفة الدعم الذي يوازي 11% فقط من إيرادات الموازنة العامة، رغم أنها تدير سوقاً احتكارياً للسلع المدعومة، متجاهلة حساب تكلفة السرقات وكفاءة التكلفة، في وقت تخصص فيه استثمارات غير ذات جدوى، قائمة على القروض المحلية والأجنبية، بما يزيد من حجم الديون وضغوط النفقات على المواطنين المجبرين على دفع الأسعار التي تحددها الجهات الحكومية.