السوريون.. في عالم الوحوش
للمرة الأولى في حياتي، أزور عرسال، المنطقة الأشهر في لبنان أخيراً. ثلاث ساعات للوصول إلى المدينة، والصدمة، كل الصدمة، حين تشعر، من اللحظة الأولى، بأن المدينة تكاد تكون خارج خارطة لبنان.
مظاهر الفقر والتشريد والاكتظاظ السكاني زاد عليها ستون ألف لاجئ سوري من القصير والقرى المحيطة التي احتلها حزب الله أخيراً.
حواجز الجيش اللبناني محيطة بالبلدة، وداخلها، وكل 10 دقائق يمر رتل عسكري في أجواء توحي بحرب ضارية مشتعلة فيها. أهل عرسال طيبون إلى درجة لا يتخيلها عقل. فعلى الرغم من كمية القرف التي يعيشونها يستقبلونك بابتسامة عريضة، لا أدري من أين مصدرها!
تنتشر مخيمات اللجوء العشوائية، ومعها قصص مآسٍ، لا تعد ولا تحصى.
تحطمت نفسيتي إلى أبعد الحدود.
درجة الحرارة منخفضة جدا، والصقيع اخترقني حتى العظم. هل لا يزال أنفي في مكانه، أم أنه تجمد وانكسر؟
ينظر إليّ بعينيه الزرقاوين، اختلط التراب بالشعر الأشقر والوجنة الخشنة والقدمين الحافيتين. يبتسم هذا الطفل، وأنا لا أدري بحالي، هل أخلع معطفي لأعطيه إياه، أم أعطيه نقودا أم ماذا؟ ضياع حقيقي أصابني، فأتى يسألني "خالة انتي من وين؟"، قلت من بيروت، وأنت "قال من القصير في سورية".
ما اسمك؟ محمد.
ابن السنوات الثماني لا ذنب له بحرب قذرة، أخرجته من مدرسته وبيته إلى عالم التشريد المجحف.
لا يستطيع اللاجئون السوريون مغادرة عرسال، منذ الاشتباكات بين مجموعات سوريةٍ مسلحة مع الجيش اللبناني في أغسطس/آب الماضي.
دفع اللاجئون ثمنا باهظا. أحرقت خيم، وشن الجيش حملة اعتقالات عشوائية بحقهم.
تصرخ أم أحمد من حمص بأن ابنها (14 عاما) اعتقل من المخيم، وعذب بوحشية بالكهرباء والماء بتهمة انتمائه لداعش، وتحلف المرأة بأن ليس لدى ابنها أي انتماء، وكان جالسا في المخيم لحظة حرق الخيم.
الحاج أبوعلي اعتقل، وعمره 65 سنة، وبعد الشتائم والتعذيب خرج واستدان نقوداً، ليعود إلى المخيم!
وفوق ذلك كله، أتى قرار الأمم المتحدة بوقف المساعدات الغذائية بفعل نقص التمويل، ليزيد الطين بلة. أكثر من ثلثي لاجئي عرسال يستفيدون من هذه المساعدات، وجاء توقيفها في الوقت القاتل. أيها السوريون موتوا قصفا وجوعا وذلا وقهرا. مرحبا بكم في عالم الوحوش.