السودان وهذا الكلام الساكت

13 فبراير 2019
+ الخط -
في التوصيف السوداني للكلام الذي لا يحمل قدراً من الجدّية، أو لا معنى ولا قيمة له، يقولون "كلام ساكت"، وهو تعبير مدهش، إذ إنه كلام وساكت. من هذا النوع، كلام ظل يصدر باستمرار من كبار المسؤولين في الحكومة السودانية، كلما حمي الهتاف في الشارع الثائر في السودان "تسقط بس". يحب المسؤولون ترديد عبارة واحدة، ابتدرها الرئيس السوداني عمر البشير "أن الفيصل هو صندوق الانتخابات وموعده قريب 2020". للوهلة الأولى، ولمتابع من خارج السودان، تبدو في الأمر معقولية وكياسة وديمقراطية. ولكن سرعان ما يكتشف المرء أن ليس في الأمر ديمقراطية، ولا حتى قدر بسيط من الإيمان بها، بل هو بعض كلام جميل ومنسق وكلام ساكت. على أرض الواقع، لا يحتاج الأمر إلى كثير عناء، لتدرك أنه فعلاً كلام ساكت. أولاً لأن الحكم كله مبنيٌّ على باطل، إذ هو في جذره انقلاب عسكري يسعى إلى رفع قناع ووجه جديد لمشروعية مدنية، يصعب إدراكها بـ "التقادم"، بحسب ما يردده بعض قيادات الحركة الإسلامية العربية، معتبرين أن حكم الإخوان المسلمين في السودان لم يعد انقلاباً عسكرياً، بل هو "أمر واقع".
هذه الفكرة (الديمقراطية) من نظام شمولي تحيط بها عقباتٌ لا تنفع معها الحيلة. أولاً إن الفكرة الديمقراطية يحكمها القانون وإطلاق الحريات والعدالة ومساواة في الحقوق. والدستور السوداني الحالي لعام 2005 يضع الترشح فكرة تروق لحزب المؤتمر الوطني (الحاكم) أمام حاجز يصعب تجاوزه إلا بتجاوز نصوص الدستور الممهور بتوقيع الرئيس عمر البشير نفسه. والديمقراطية، كما ينصّ عليها الدستور الحالي، ترفض، وبشكل قاطع، حق الرئيس في الترشح 
لفترة رئاسية جديدة. انتهت صلاحية الرئيس بفترتين في الحكم. ومعلوم أنه جلس قبلها على كرسي الحكم سنواتٍ، تزيد على فترة انتخابية واحدة منذ الانقلاب عام 1989 إلى عام 2005. بمعنى أن الرئيس نال فترات حكم فعلية تزيد على السبع. والمفارقة هنا أنه لكي يزاول الرئيس حقه الديمقراطي هذا، ليس من سبيلٍ أمامه إلا أن يزاول العمل الانقلابي مرة ثانية، لكي يعدل الدستور، وينقلب على الشرعية الدستورية للحكم، وهو أمر لا يعبر عن امتثال للممارسة الديمقراطية.
ومن جملة الكلام الساكت أن الرئيس عمر البشير أعلن، وأكّد أكثر من مرة، أنه لن يترشّح لفترة رئاسية جديدة. في 19 أغسطس/ آب 2016، نشرت الصحف السودانية حديثاً للرئيس البشير لوسائل إعلام مصرية "جدّد الرئيس السوداني عمر البشير التأكيد على نيته عدم الترشح مجدداً في الانتخابات المقرّرة عام 2020 ". ونقلت قوله "لست ديكتاتوراً، وغير راغب في السلطة، ولن أترشح لفترة رئاسية أخرى، مدّتي ستنتهي عام 2020، ولن أجدّد بالدستور، ولن يتغيّر الدستور". وباعترافٍ جميل، يقول "لقد أمضيت أكثر من عشرين عاماً، وهذه أكثر من كافية في ظروف السودان، والناس تريد دماء جديدة ودفعة جديدة، كي تواصل السير والبناء والإعمار والتنمية"، بل إنه يحدّد موقعه في عام 2020 "سأترك مقر الرئاسة، وأبتعد عن عالم السياسة". وفي الواقع، حينما يصدر هذا الحديث في نظام شمولي، عليك أن تتحسّب ليس من شخص الرئيس نفسه، وإنما من الطبقة ثقيلة الظل من المنتفعين الذين ارتبط نظام حياتهم على العيش ملتصقين بمنافع الرئاسة وامتيازاتها. إنهم أشبه بحشراتٍ تعيش على امتصاص سائل الحياة من مؤسسة الرئاسة. ومن هذه المجموعة الانتهازية الفاسدة، خرج فريق يهتم بأمر ترشح الرئيس، ويمهّد له الطريق، ويعزف له أجمل ألحان الشمولية، غير أن التطورات الماثلة في السودان أضافت بعداً خارج التصورات السابقة، فيطرح الشارع الغاضب رؤيته في تعبيرٍ موجز، لا يقل عبقرية عن الكلام الساكت، وهو "تسقط بس". بمعنى ليذهب الرئيس ونظام الحكم بكامله إلى ذمة التاريخ .
من الناحية الأخرى، يحتدم في الحزب الحاكم وتفرعاته والمنشقين عنه الصراع بين مؤيّد ورافض، كما في حالة الإسلامي البارز غازي صلاح الدين، رئيس حركة الإصلاح الذي يتجاوز الرفض، ويستدلّ بتجربة انتخابات 2015، ويقول إنها "أوضحت أن مخالفة الدستور السابقة لم تحل الأزمات، بل عقّدتها". ويتفق مع المزاج العام الذي يدعو الحكومة إلى التنحّي، لعجزها عن حل أزمات السودان. وأخذ الرئيس نفسه يبعث رسائل متباينة، تشير إلى أنه، وإنْ تنحّى، سوف يسلم مقاليد الأمور إلى العسكر، وفق ما أعلنه في مدينة عطبرة، عند لقائه بقياداتٍ عسكرية هناك. بدا واضحاً أن هذه الكلمات مصوّبة في اتجاه قيادات الحركة الإسلامية، بما في ذلك الرافضون لترشحه. وهذا بعض من قمة جبل الجليد للخلافات والتباين الحاد بين 
الرئيس وقطاع واسع داخل حزبه. واتضحت هذه النيات أكثر، حينما هرول البشير سريعاً إلى القاهرة، والتقى الرئيس عبد الفتاح السيسي، وهو الأمر الحقيقي الوحيد الذي يمكن الخروج به من مسبّبات تلك الزيارة المفاجئة، فمصر ستكون سنده في أي صراع قوة محتمل مع "الإخوان المسلمين" الذي باتوا يشكّلون عليه حملة ضغطٍ قويةٍ من داخل المؤسسة الحاكمة. ووفقاً لتاريخٍ مجيدٍ للعسكريين في العمل الانقلابي، فليس مستبعداً إن ضاقت حلقات الضغط على عمر البشير أن يلجأ إلى فرض حالة طوارئ في السودان، كما فعلها في ديسمبر/ كانون الأول 1999، بصحبة مجموعة علي عثمان طه، عندما جرّد حسن الترابي من سلطاته، ومن رئاسة البرلمان، وحلّ البرلمان وعطّل مواد الدستور. بمعنى أن يعلن حالة الطوارئ في السودان حتى عام 2020. ومثل هذه الخطوة سوف يُعتمد فيها على المؤسسة العسكرية في الانقلاب على الإسلاميين، أملاً في إقناع الشارع الغاضب بأنه يمتثل لرغباته. هذه الخطوة في حكم المؤكد، خصوصاً إذا ما وصل إلى قناعةٍ بأن "الإخوان المسلمين" ينوون التخلص منه، وجعله كبش فداء لكل ما ارتكبوه من سياساتٍ أوصلت السودان إلى أتون هذه الأزمة الخطيرة والعاصفة. وتتعزّز احتمالات هذه الخطوة بقوة مع مرور الوقت، واشتداد وطيس التجاذبات السياسية، للبحث عن بديل، والتي انطلقت بالفعل.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.