السودان والحركات المسلحة في دارفور: برلين أحدث محطات التفاوض

17 ابريل 2018
تدخل الحكومة المباحثات في ظل انتصارات عسكرية(أشرف الشاذلي/فرانس برس)
+ الخط -


انطلقت في برلين، أمس، لمدة يومين، وبرعاية من الحكومة الألمانية، مباحثات بين الحكومة السودانية، وأبرز حركتين مسلحتين في إقليم دارفور المضطرب، وهما "العدل والمساواة" و"تحرير السودان". ويترأس وفد الحكومة السودانية إلى المباحثات، مستشار الرئيس السوداني لشؤون التفاوض، أمين حسن عمر، فيما يترأس وفد حركة "العدل والمساواة"، جبريل إبراهيم، ووفد حركة "تحرير السودان"، مني أركو مناوي، بينما يغيب عن المشهد الرجل الأكثر تشدداً في المفاوضات مع الخرطوم، عبد الواحد محمد نور، الذي يقود حركة منفصلة. ويشارك في الاجتماع، كأطراف داعمة، دول "الترويكا"، وهي بريطانيا والولايات المتحدة والنرويج، بالإضافة إلى فرنسا والاتحاد الأوروبي وبعثة الأمم المتحدة في دارفور (يوناميد)، التي يبدو أنها باتت حريصة أكثر من أي وقت مضى لإنجاز سلام نهائي في صراع دارفور المستمر منذ 15 سنة، وكانت كلفته الإنسانية عالية جداً، فضلاً عن التأثيرات السلبية للنزاع نفسه على قضايا إقليمية، مثل ليبيا وجنوب السودان.

وعلى الرغم من الغموض الذي يكتنف طبيعة المباحثات ومواضيعها، ومدى ارتباطها بوثيقة الدوحة (وثيقة سلام برعاية قطرية، وقعت عليها في يوليو/ تموز 2011، حركة "التحرير والعدالة" بزعامة التجاني سيسي، ورفضتها الحركات المتمردة الثلاث، "تحرير السودان" بقيادة أركو مناوي، و"العدل والمساواة" برئاسة جبريل إبراهيم، و"تحرير السودان" جناح عبد الواحد نور، ومفاوضات أخرى تعقد في أديس أبابا، إلا أن السفير الألماني في الخرطوم، أولريش كلوكنر، كشف، في تصريحات صحافية، أن اجتماع برلين يهدف، في خطوطه العريضة، إلى إلحاق المعارضة بالحوار، للمشاركة في وضع الدستور الدائم للبلاد، استعداداً للانتخابات في العام 2020، وهو ما يعني عملياً أن المباحثات تعتبر تسهيلية أكثر من كونها تفصيلية.

وأدى تفجر النزاع المسلح في إقليم دارفور، قبل 15 سنة، إلى مقتل نحو 300 ألف شخص، وتشريد نحو 2.5 مليون شخص، وفقاً لإحصائيات أممية. وبقي ملف التفاوض بين أطراف النزاع يرحل بشكل دائم بين المدن والعواصم العالمية، بدءاً من مدينة أبشي التشادية، مروراً بأبوجا النيجيرية، ثم العاصمة الليبية طرابلس، وبعدها مدينة سرت، ثم الدوحة، وأديس أبابا، وانتهاءً ببرلين حالياً. وتحاول وزارة الخارجية الألمانية، منذ العام 2014، لعب دور لتسهيل عملية السلام والمصالحة وتعزيز الإصلاحات الديمقراطية في السودان. ولا يُعد لقاء الحكومة والحركات المسلحة الأول من نوعه الذي تنظمه وزارة الخارجية الألمانية، فقد سبق أن نظمت لقاءً بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان التي تقاتل في جنوب كردفان ومنطقة النيل الأزرق، كما جمعت قوى "نداء السودان"، وهو تجمع لأحزاب مدنية وحركات مسلحة، بالحكومة. لكن لا يتم، في معظم تلك الاجتماعات، إجراء مفاوضات تفصيلية، وإنما مباحثات تمهد الطريق لاستئناف جولات التفاوض المباشر، إما في أديس أبابا أو الدوحة. وعلى الرغم من أن النتيجة لا تكون، في كل مرة، إيجابية، فإن برلين تتمسك بالمحاولة مرة أخرى.



وتدخل الحكومة السودانية مباحثات برلين في ظل انتصارات عسكرية وسياسية، تقول إنها حققتها على الحركات المسلحة في دارفور، لدرجة أنها وضعت على طاولة الأمم المتحدة رغبتها بمغادرة قوات حفظ السلام المنتشرة في الإقليم منذ العام 2006. وتؤكد الخرطوم مراراً وتكراراً أن السلام تحقق، بنسبة كبيرة، في الإقليم، ولم تعد هناك حاجة لوجود الآلاف من جنود حفظ السلام، بعد أن ألغت الوجود الميداني للمتمردين وهزمتهم في معارك حاسمة، وطردتهم من كل المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، فضلاً عن فرضها للأمن وسيادة حكم القانون في الإقليم.

وفي الوقت ذاته، بدأت الحكومة هجوماً سياسياً، نجحت عبره في إقناع بعض الأطراف الدولية باتهام الحركات المسلحة بتأزيم الصراع في كل من ليبيا وجنوب السودان، وذلك عبر القتال كمرتزقة مع القوات التابعة للواء الليبي المتقاعد، خليفة حفتر، وإلى جانب رئيس جنوب السودان، سلفا كير. واستطاعت الحكومة التنسيق مع جنوب السودان لوقف كافة الإمدادات والدعم اللوجيستي الذي تقدمه للمتمردين السودانيين. كما استطاعت، بنسبة كبيرة، تحييد دول مؤثرة، مثل أوغندا التي كانت تأوي قيادات المتمردين. وأطلقت الخرطوم حملة ترويجية دولية بشأن خطورة الحركات المسلحة على الأمن الإقليمي ككل، واتهامها بالاتجار بالبشر والمخدرات، والتعامل مع جماعات إسلامية متشددة. وقد وجدت تلك الحملة قبولاً من بعض الأطراف الدولية. ومع هذا الشعور الطاغي بالنصر العسكري والسياسي، تضع الخرطوم خيارين فقط أمام المجموعات المسلحة، الأول التوقيع على اتفاق الدوحة كوثيقة تضع أطر الحل السياسي في دارفور، من دون إعادة للتفاوض، إلا في قضايا وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية الأخرى. يُشار إلى أن وثيقة الدوحة، التي وقعت برعاية قطر، احتوت على بنود تقاسم للثروات والسلطة بين الحكومة السودانية والحركات المسلحة في دارفور، وإقرار تعويضات للنازحين، مع إجراء استفتاء شعبي يحدد الوضعية الإدارية للإقليم، وما إذا كان سيبقى مقسماً إلى ولايات أم يتحد في إقليم واحد. وبالفعل أُجري الاستفتاء في 2016، وجاءت النتيجة لصالح تقسيمه إلى ولايات. ووقعت على الوثيقة الحكومة وعدد من الحركات المسلحة، لكن أطرافاً أخرى رفضتها، بينها تلك التي تشارك في اجتماع برلين. أما الخيار الثاني الذي تضعه الحكومة أمام المتمردين، فهو اللحاق بالحوار الوطني في الداخل، وهو حوار تبنته في العام 2014 وانتهى بتشكيل حكومة وفاق وطني. لكن الرئيس عمر البشير أعلن، قبل نحو أسبوعين، عن مرحلة ثانية من الحوار هدفها إعداد دستور دائم للبلاد، وهي المرحلة التي فتحت الأبواب للمعارضين، بمن فيهم حملة السلاح.

في المقابل، ترفض، على الأقل في الوقت الراهن، الحركتان المسلحتان الموجودتان في برلين مقترحات الحكومة، رغم ضعفهما الواضح في الميدان والانشقاقات المستمرة داخلهما، فهما تريان أن وثيقة الدوحة غير ملزمة لهما وأنها لم تعالج كل القضايا السياسية، بالإضافة إلى تقديرهما أن علاج مشكلة دارفور يجب أن يتم في إطار قومي وبمشاركة أطراف أخرى، خصوصاً حلفائهما في "نداء السودان"، الذي يضم أحزاباً مدنية ومجموعات مسلحة، لكنه لا يحظى باعتراف الحكومة. وبحسب رئيس حركة "العدل والمساواة"، جبريل إبراهيم، فإن اجتماعات برلين مجرد محاولة للوصول لاتفاق ما قبل التفاوض، تمهيداً لمفاوضات وقف العدائيات، ثم الانتقال بعد ذلك للتفاوض في القضايا الأساسية التي بسببها اندلعت الحرب. وما يعُقد المباحثات أكثر بالنسبة للحركات المسلحة، هو قناعة المجتمع الدولي بضرورة التوقيع على اتفاق سلام، للضغط على تلك الحركات، وهو أمر بدأ سلفاً بتهديد رئيس لجنة السلم والأمن في الاتحاد الأفريقي، إسماعيل شرقي، للفصيلين المشاركين في لقاء برلين باتخاذ تدابير ضدهما، في حال رفضهما اللحاق بعملية السلام، معتبراً أن لقاء برلين محطة أخيرة للتفاوض. في هذا الوقت، تحدثت تقارير صحافية عن تهديد وصل إلى تلك الحركات بتصنيفها كمجموعات إرهابية حال تعنتها باللحاق بركب السلام. وفي الوقت الذي يستخدم فيه المجتمع الدولي العصا ضد الحركات المسلحة، فإنه يقدم جزرة إلى الخرطوم، إن هي توصلت إلى اتفاق سلام جديد في دارفور، برفع اسمها من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو تصنيف وضعت الولايات المتحدة السودان فيه منذ العام 1993.

المساهمون