24 يوليو 2024
السودان.. خرج الوزير الغندور ليعود
اهتمت وسائل الإعلام في السودان، الرسمية وغير الرسمية، أخيرا، بإثارة ضجة كبرى عقب إقالة الرئيس عمر البشير وزير الخارجية، إبراهيم غندور، من منصبه. وانصبّ اهتمامها على إطلاق العنان للخيال في بحثها عن مسببات وخفايا غير منظورة لهذه الإقالة، وهذا هو حال النظم الشمولية التي تدمن إدارة شؤون البلاد وتداولها في عتمة، وبعيدا عن أعين الشعب. ووسط الافتقار للمعلومات، دارت سريعا عجلة التكهنات بشأن من سيخلف غندور في المنصب. ومن حق الناس طرح الأسئلة، بحثا عن إجابةٍ ليس فقط بشأن أسباب الإقالة، وإنما عن مجمل المشهد السياسي المرتبك أمام أعين السودانيين، والذي بات يشغل غيرهم في الجوار الإقليمي أو حتى النطاق العالمي.
المؤكد أن مخاطبة وزير الخارجية المقال البرلمان، بشأن تأخر دفع مرتبات الدبلوماسيين ليس فيها جديد، حتى تستدعي تلك الضجة. ومن يتفحص في جسد الدولة يجد أن أغلب قطاعاتها تعاني تماماً مما تعانيه وزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي. ومعلومة قصة الرواتب التي تتأخر أكثر من سبعة أشهر، ويشمل ذلك قطاعات واسعة في الدولة من أطباء ومعلمين وموظفين وعمال. وفي ظل غياب المال، تلجأ الدولة إلى مقايضاتٍ بدائيةٍ، فتعوض موظفيها عن تراكم الأجور بمقابل عيني، سيارة، ثلاجة، تلفزيون... إلخ. ولذلك، فإن الأسباب التي أزعجت رئيس الدبلوماسية في السودان، وجعلته يتخلى عن دبلوماسيته، موجودة، ومعاناة موظفي الدولة منها بلا انتهاء.
وما قاله الوزير غندور عن معاناة السفارات وبعثات السودان الدبلوماسية في الخارج، وتأخر المرتبات عنهم أكثر من سبعة أشهر، وما ترتب على ذلك من مديونيةٍ، بلغت ما يزيد على 30 مليون دولار، أهميته، وحساسيته ناجمة عن أنه قد خرج عن السياق العام للدولة التي تعيش حالة إنكار تام للأزمة العميقة التي تهدد السودان. وما فعله غندور أنه اختار الخوض علنا في تفاصيل حالة الإفلاس غير المعلن. ومعلوم حال السودان داخل كل المنظمات والاتحادات الإقليمية أو الدولية التي تصنفه ضمن الدول المتعسّرة، والتي تعاني من تراكم المتأخرات المالية المطلوبة لضمان استمراره عضوا كامل العضوية في تلك المنظمات والمؤسسات الدولية. ويعلم الوزير غندور تماماً أن أحد الأسباب الرئيسية فيما تعانيه السفارات والبعثات الدبلوماسية يكمن في حالة الفساد والبعثات المتضخمة. وقد باتت فكرة تعيين الدبلوماسيين في وزارة الخارجية تقوم على فساد مطلق حوّل السفارات إلى أذرع أخطبوطية للفساد الداخلي. وباتت السفارات اختيارا ومقصدا مفضلا لأعضاء التنظيم الحاكم، وبالتالي أصبحت تعج بجيوش جرى تعيينها من خارج السلك الدبلوماسي، وجرى استثناؤها بتجاوز الأطر المتعارف عليها في الاختيار والإلحاق بهذه المهنة التي ظلت مراعاةً بدقة وصرامة، طوال عقود قبل عام 1989.
تعجّ سفارات السودان في الخارج اليوم بأبناء كبار المسؤولين في التنظيم، أو في الحكومة، ومن الثقاة وأبناء التنظيم العاطلين عن أية موهبة دبلوماسية. أضف إلى ذلك الجهل بأبجديات العمل الدبلوماسي، وقد جعل الفساد وسوء إدارة العمل الدبلوماسي من السفارات مصدرا لاستنزاف مستمر لموارد الدولة. وما لا يمكن إنكاره هو أن حال السفارات الذي أحزن رئيس الدبلوماسية السودانية، وجعله يتخلى عن دبلوماسيته، لا يختلف عن حال المؤسسات المالية والبنوك السودانية المفلسة، والتي تفتقر إلى السيولة المالية اللازمة لتسيير الحياة في الدولة. وما يعانيه الدبلوماسي لا يقارن مع معاناة التجار أو المودعين في البنوك السودانية الذين عليهم أن ينسوا أمر أموالهم في البنوك. وأزمات الوقود والخبز ماثلة في تفاصيل الحياة اليومية بلا حل، لأن خزائن الدولة والبنوك خاوية. إذن، يتعلق الأمر بحالة عامة وخطيرة من التردّي الذي بات يخنق الدولة، وبدرجة تهدّد تماسكها.
ومكمن الخطر في إقالة الوزير أن الوضع الخطير الذي يمر به السودان اليوم، وحالة الإنكار التي تصر عليها الحكومة، لكونها تقف على حافّة الإفلاس والانهيار قد يجعل الأطراف الخارجية الدائنة، خصوصا تتزاحم على حقوقها. فكما يأخذ الموظفون حقوقهم عينية، فقد يغري الوضع الماثل دولا بأخذ حقوقها بالكيفية نفسها. ولعل الصين الدولة الأولى التي التفتت مبكرا لهذا الوضع، وهي الآن تبدو أكثر الدول المستفيدة من علاقاتها الاقتصادية مع السودان، وتأخذ نصيبها من الديون والقروض الكثيرة للدولة، وفق طرق سدادٍ يصعب إدراكها، في ظل التعتيم
الذي تفرضه الحكومة على الوضع المالي، وتعاملاتها مع الدول. وفي ظل مديونية متضخمة (أكثر من 50 مليار دولار)، فإن سداد فوائد الديون يمثل عبئا حقيقيا يثقل كاهل الدولة.
ومهما كان، فإن إقالة الوزير إبراهيم غندور لا تشغل كثيراً بال المواطن في السودان الذي تستغرقه تفاصيل الحياة اليومية وتكفيه مشقتها. وينظر إلى المشهد الماثل قضيةً تخص الحاكمين الذين يستنكفون عن إطلاع الشعب على الحقائق، وهذا دأبهم منذ أيام الانقلاب الأولى في العام 1989. على أن الشارع يفهم جيداً أن غندور هو ابن التنظيم الإسلامي والنظام، وإذ خرج اليوم من بوابة الخارجية، فإن التنظيم سيخرج لاحقا ليطلق على خروج الرجل "استراحة محارب"، وهو التعبير المجرّب. ثم يعيد الغندور في مكان آخر سفيرا، وربما مستشارا رئاسيا أو وزيرا في وزارةٍ أقرب إلى تخصّصه طبيب أسنان. وسيظل الغندور، في كل الأحوال، ابن التنظيم الذي ساير نظام جبهة الإنقاذ في كل تقلباتها وتجاذباتها، والضالع في تفاصيل أيامها الكالحة. بمعنى أن ليس في الأمر ما يشي بقرار مبدئي أو صحوة ضمير مفاجئة لدى الوزير، فهو لم يبارح دائرة الفئة الحاكمة، فلا هو شعبي، ولا هو من الفئات الأخرى التي تناثرت من عباءة الجبهة الإسلامية الحاكمة. إنه ابن التنظيم الذي سيخرج من جديد وبثوب آخر في موقع آخر.. لكن بعد قسط من الراحة.
المؤكد أن مخاطبة وزير الخارجية المقال البرلمان، بشأن تأخر دفع مرتبات الدبلوماسيين ليس فيها جديد، حتى تستدعي تلك الضجة. ومن يتفحص في جسد الدولة يجد أن أغلب قطاعاتها تعاني تماماً مما تعانيه وزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي. ومعلومة قصة الرواتب التي تتأخر أكثر من سبعة أشهر، ويشمل ذلك قطاعات واسعة في الدولة من أطباء ومعلمين وموظفين وعمال. وفي ظل غياب المال، تلجأ الدولة إلى مقايضاتٍ بدائيةٍ، فتعوض موظفيها عن تراكم الأجور بمقابل عيني، سيارة، ثلاجة، تلفزيون... إلخ. ولذلك، فإن الأسباب التي أزعجت رئيس الدبلوماسية في السودان، وجعلته يتخلى عن دبلوماسيته، موجودة، ومعاناة موظفي الدولة منها بلا انتهاء.
وما قاله الوزير غندور عن معاناة السفارات وبعثات السودان الدبلوماسية في الخارج، وتأخر المرتبات عنهم أكثر من سبعة أشهر، وما ترتب على ذلك من مديونيةٍ، بلغت ما يزيد على 30 مليون دولار، أهميته، وحساسيته ناجمة عن أنه قد خرج عن السياق العام للدولة التي تعيش حالة إنكار تام للأزمة العميقة التي تهدد السودان. وما فعله غندور أنه اختار الخوض علنا في تفاصيل حالة الإفلاس غير المعلن. ومعلوم حال السودان داخل كل المنظمات والاتحادات الإقليمية أو الدولية التي تصنفه ضمن الدول المتعسّرة، والتي تعاني من تراكم المتأخرات المالية المطلوبة لضمان استمراره عضوا كامل العضوية في تلك المنظمات والمؤسسات الدولية. ويعلم الوزير غندور تماماً أن أحد الأسباب الرئيسية فيما تعانيه السفارات والبعثات الدبلوماسية يكمن في حالة الفساد والبعثات المتضخمة. وقد باتت فكرة تعيين الدبلوماسيين في وزارة الخارجية تقوم على فساد مطلق حوّل السفارات إلى أذرع أخطبوطية للفساد الداخلي. وباتت السفارات اختيارا ومقصدا مفضلا لأعضاء التنظيم الحاكم، وبالتالي أصبحت تعج بجيوش جرى تعيينها من خارج السلك الدبلوماسي، وجرى استثناؤها بتجاوز الأطر المتعارف عليها في الاختيار والإلحاق بهذه المهنة التي ظلت مراعاةً بدقة وصرامة، طوال عقود قبل عام 1989.
تعجّ سفارات السودان في الخارج اليوم بأبناء كبار المسؤولين في التنظيم، أو في الحكومة، ومن الثقاة وأبناء التنظيم العاطلين عن أية موهبة دبلوماسية. أضف إلى ذلك الجهل بأبجديات العمل الدبلوماسي، وقد جعل الفساد وسوء إدارة العمل الدبلوماسي من السفارات مصدرا لاستنزاف مستمر لموارد الدولة. وما لا يمكن إنكاره هو أن حال السفارات الذي أحزن رئيس الدبلوماسية السودانية، وجعله يتخلى عن دبلوماسيته، لا يختلف عن حال المؤسسات المالية والبنوك السودانية المفلسة، والتي تفتقر إلى السيولة المالية اللازمة لتسيير الحياة في الدولة. وما يعانيه الدبلوماسي لا يقارن مع معاناة التجار أو المودعين في البنوك السودانية الذين عليهم أن ينسوا أمر أموالهم في البنوك. وأزمات الوقود والخبز ماثلة في تفاصيل الحياة اليومية بلا حل، لأن خزائن الدولة والبنوك خاوية. إذن، يتعلق الأمر بحالة عامة وخطيرة من التردّي الذي بات يخنق الدولة، وبدرجة تهدّد تماسكها.
ومكمن الخطر في إقالة الوزير أن الوضع الخطير الذي يمر به السودان اليوم، وحالة الإنكار التي تصر عليها الحكومة، لكونها تقف على حافّة الإفلاس والانهيار قد يجعل الأطراف الخارجية الدائنة، خصوصا تتزاحم على حقوقها. فكما يأخذ الموظفون حقوقهم عينية، فقد يغري الوضع الماثل دولا بأخذ حقوقها بالكيفية نفسها. ولعل الصين الدولة الأولى التي التفتت مبكرا لهذا الوضع، وهي الآن تبدو أكثر الدول المستفيدة من علاقاتها الاقتصادية مع السودان، وتأخذ نصيبها من الديون والقروض الكثيرة للدولة، وفق طرق سدادٍ يصعب إدراكها، في ظل التعتيم
ومهما كان، فإن إقالة الوزير إبراهيم غندور لا تشغل كثيراً بال المواطن في السودان الذي تستغرقه تفاصيل الحياة اليومية وتكفيه مشقتها. وينظر إلى المشهد الماثل قضيةً تخص الحاكمين الذين يستنكفون عن إطلاع الشعب على الحقائق، وهذا دأبهم منذ أيام الانقلاب الأولى في العام 1989. على أن الشارع يفهم جيداً أن غندور هو ابن التنظيم الإسلامي والنظام، وإذ خرج اليوم من بوابة الخارجية، فإن التنظيم سيخرج لاحقا ليطلق على خروج الرجل "استراحة محارب"، وهو التعبير المجرّب. ثم يعيد الغندور في مكان آخر سفيرا، وربما مستشارا رئاسيا أو وزيرا في وزارةٍ أقرب إلى تخصّصه طبيب أسنان. وسيظل الغندور، في كل الأحوال، ابن التنظيم الذي ساير نظام جبهة الإنقاذ في كل تقلباتها وتجاذباتها، والضالع في تفاصيل أيامها الكالحة. بمعنى أن ليس في الأمر ما يشي بقرار مبدئي أو صحوة ضمير مفاجئة لدى الوزير، فهو لم يبارح دائرة الفئة الحاكمة، فلا هو شعبي، ولا هو من الفئات الأخرى التي تناثرت من عباءة الجبهة الإسلامية الحاكمة. إنه ابن التنظيم الذي سيخرج من جديد وبثوب آخر في موقع آخر.. لكن بعد قسط من الراحة.