في زيارتي الأخيرة للسودان تلقيت دعوة من مجموعة من الشباب السوداني لقضاء ليلة فكرية على ضفاف النيل الأزرق المتدفق بالخصوبة والمياه، وتوافقت هذه الدعوة مع قدوم ليلة شتوية باردة وجميلة على الخرطوم التي تعاني من لهيب درجة الحرارة المرتفعة صيفاً وشتاءً.
ومع هذه الإغراءات الفكرية والمُناخية لم يكن أمامي من خيار سوى الاستجابة والانصياع لهذه الدعوة؛ فتحركنا صوب النيل الأزرق، وجلسنا في رحاب ست الشاي*، التي أفاضت علينا من بركاتها المتعددة من القهوة، والشاي، والماء، والعصائر، ومع هذا الجو العليل، وكرم الضيافة الضافي بدأ الشباب في طرح أفكارهم، ورؤيتهم لحاضر ومستقبل السودان.
فبدأ أحدهم بالحديث حول الجغرافيا السياسية للسودان وأثرها على مستقبل الوطن، وقدم لنا رؤية مُختصرة حول طبيعة ودور السودان فى الفضاء الأفريقي والعربي، وضرورة التناغم بينها حتى لا يقع التعارض وتحصل القطيعة مع الحاضنة الأفريقية، ثم تكلم شاب آخر عن الاقتصاد الزراعي للسودان، فتناول فلسفة عمل الاقتصاد الزراعي، وطرق بناء التكامل الاقتصادي بين النشاط الصناعي والزراعي، وشرح لنا تصوره عن شكل الاقتصاد الزراعي الواجب تطبيقه في السودان حتى يتحقق للبلد الاكتفاء الغذائي.
وظللت أثناء النقاش صامتا استمع للشباب بكل تركيز واهتمام، فهذا اللقاء مثل لي فرصة جيدة للتعرف على اهتمامات وتطلعات بعض شباب السودان، وبعد انتهاء الشابين من حديثهما تكلمت إحدى الفتيات الحاضرات بكلام عميق، فقالت: يا جماعة قبل الحديث عن الاقتصاد والجغرافيا والسياسة لا بد من التفكير بعمق في تطوير الخطاب الديني المُقدم في السودان حتى يصبح منحازاً للمستقبل ومُحترماً لكرامة الإنسان، ومُغادراً لفضاء التواكل والانتظار إلى ساحة الفعل والتأثير.
واستمرت هذه السهرة الممتعة على هذا المنوال، فتجاذب الجميع أطراف الحديث تارة بالنقد، وحيناً بالصمت، وأحياناً أخرى بالتأييد والثناء.
ثم حدثت لي مفاجأة صادمة ومزعجة؛ فبعدما سمعت كلمات الشباب والتي تكشف عن درجة عالية من الوعي والثقافة وعمق القراءة والشغف المعرفي، سألت سؤالاً واحداً: "وماذا تعملون الآن لخدمة المجتمع والوطن؟"، فكانت إجابة الجميع بلا استثناء: لا نقدم شيئاً! فتعجبت جداً وقلت بصوت عال يا عالم حرام عليكم، فبعد كل هذه المعارف والعلوم والثقافة والقراءة والجهد، لا تقدمون شيئاً للناس على الأرض! ثم كان سؤالي التالي لهم: "فما هو السبب الذي يقف وراء ذلك؟"، فجاءت إجاباتهم على هذا السؤال متنوعة؛ فقال بعضهم لقد اكتشفنا من خلال القراءة والثقافة والتجربة أن الأفكار التي كنا نقاتل من أجلها ونتحمس لها لم تكن صائبة وحقيقية؛ فقد قدمنا دماء وشهداء في حربنا ضد جنوب السودان، وفي النهاية وجدنا أن هذا كان مساراً خاطئاً، وبالتالي ليس لدينا استعداد للتحرك وتقديم مشاريع تأخذ من وقتنا وصحتنا وتعرضنا للخسائر ونحن غير واثقين من صحتها، ثم تكلم فريق آخر في هذه السهرة التي اشتعلت نقاشاً، وقدم تفسيراً مغايراً للإجابة الأولى، فقال: بصراحة نحن كنا من أشد المتحمسين لتجربة السودان السياسية، ولتلك الأيديولوجية الإسلامية الثائرة التي قادها الدكتور حسن الترابي، والتي كانت تعد السودانيين بتحقيق الرخاء والتقدم والوحدة، وإذا بنا بعد قرابة خمسة وعشرين عاما من التجربة لم نحصد إلا مزيداً من الانقسام، وتدني مستوى الدخل القومي.
في نهاية المطاف وجدت أن إجابات هؤلاء الشباب حول أسئلتي تنحصر في أنهم يعتقدون أنه لم يعد هناك من الأفكار الكبرى ما يستحق الحركة والنشاط والتضحية! وأنهم وجدوا من خلال القراءة والاطلاع والتجربة أن معظم الأفكار نسبية، بمعنى أنها ليست صوابا مطلقاً أو شراً كاملاً؛ فلماذا يضحون بوقتهم وجهدهم في ما لا يعرفون على وجه الدقة صوابه من خطأه، ولمناقشة هذه الأفكار وتفكيكها، واستكمال النقاش حول علاقة مستوى الوعي والثقافة لدى العديد من الشباب السوادني بالحركة والفاعلية على الأرض، أعتقد أننا بحاجة إلى مقال ثانٍ يأتيكم قريبا.
*ست الشاي: اسم يطلق على المرأة أو الفتاة التي تبيع الشاي والقهوة في السودان، حيث أصبحت ست الشاي من المعالم المميزة للمدن السودانية.
(مصر)
ومع هذه الإغراءات الفكرية والمُناخية لم يكن أمامي من خيار سوى الاستجابة والانصياع لهذه الدعوة؛ فتحركنا صوب النيل الأزرق، وجلسنا في رحاب ست الشاي*، التي أفاضت علينا من بركاتها المتعددة من القهوة، والشاي، والماء، والعصائر، ومع هذا الجو العليل، وكرم الضيافة الضافي بدأ الشباب في طرح أفكارهم، ورؤيتهم لحاضر ومستقبل السودان.
فبدأ أحدهم بالحديث حول الجغرافيا السياسية للسودان وأثرها على مستقبل الوطن، وقدم لنا رؤية مُختصرة حول طبيعة ودور السودان فى الفضاء الأفريقي والعربي، وضرورة التناغم بينها حتى لا يقع التعارض وتحصل القطيعة مع الحاضنة الأفريقية، ثم تكلم شاب آخر عن الاقتصاد الزراعي للسودان، فتناول فلسفة عمل الاقتصاد الزراعي، وطرق بناء التكامل الاقتصادي بين النشاط الصناعي والزراعي، وشرح لنا تصوره عن شكل الاقتصاد الزراعي الواجب تطبيقه في السودان حتى يتحقق للبلد الاكتفاء الغذائي.
وظللت أثناء النقاش صامتا استمع للشباب بكل تركيز واهتمام، فهذا اللقاء مثل لي فرصة جيدة للتعرف على اهتمامات وتطلعات بعض شباب السودان، وبعد انتهاء الشابين من حديثهما تكلمت إحدى الفتيات الحاضرات بكلام عميق، فقالت: يا جماعة قبل الحديث عن الاقتصاد والجغرافيا والسياسة لا بد من التفكير بعمق في تطوير الخطاب الديني المُقدم في السودان حتى يصبح منحازاً للمستقبل ومُحترماً لكرامة الإنسان، ومُغادراً لفضاء التواكل والانتظار إلى ساحة الفعل والتأثير.
واستمرت هذه السهرة الممتعة على هذا المنوال، فتجاذب الجميع أطراف الحديث تارة بالنقد، وحيناً بالصمت، وأحياناً أخرى بالتأييد والثناء.
ثم حدثت لي مفاجأة صادمة ومزعجة؛ فبعدما سمعت كلمات الشباب والتي تكشف عن درجة عالية من الوعي والثقافة وعمق القراءة والشغف المعرفي، سألت سؤالاً واحداً: "وماذا تعملون الآن لخدمة المجتمع والوطن؟"، فكانت إجابة الجميع بلا استثناء: لا نقدم شيئاً! فتعجبت جداً وقلت بصوت عال يا عالم حرام عليكم، فبعد كل هذه المعارف والعلوم والثقافة والقراءة والجهد، لا تقدمون شيئاً للناس على الأرض! ثم كان سؤالي التالي لهم: "فما هو السبب الذي يقف وراء ذلك؟"، فجاءت إجاباتهم على هذا السؤال متنوعة؛ فقال بعضهم لقد اكتشفنا من خلال القراءة والثقافة والتجربة أن الأفكار التي كنا نقاتل من أجلها ونتحمس لها لم تكن صائبة وحقيقية؛ فقد قدمنا دماء وشهداء في حربنا ضد جنوب السودان، وفي النهاية وجدنا أن هذا كان مساراً خاطئاً، وبالتالي ليس لدينا استعداد للتحرك وتقديم مشاريع تأخذ من وقتنا وصحتنا وتعرضنا للخسائر ونحن غير واثقين من صحتها، ثم تكلم فريق آخر في هذه السهرة التي اشتعلت نقاشاً، وقدم تفسيراً مغايراً للإجابة الأولى، فقال: بصراحة نحن كنا من أشد المتحمسين لتجربة السودان السياسية، ولتلك الأيديولوجية الإسلامية الثائرة التي قادها الدكتور حسن الترابي، والتي كانت تعد السودانيين بتحقيق الرخاء والتقدم والوحدة، وإذا بنا بعد قرابة خمسة وعشرين عاما من التجربة لم نحصد إلا مزيداً من الانقسام، وتدني مستوى الدخل القومي.
في نهاية المطاف وجدت أن إجابات هؤلاء الشباب حول أسئلتي تنحصر في أنهم يعتقدون أنه لم يعد هناك من الأفكار الكبرى ما يستحق الحركة والنشاط والتضحية! وأنهم وجدوا من خلال القراءة والاطلاع والتجربة أن معظم الأفكار نسبية، بمعنى أنها ليست صوابا مطلقاً أو شراً كاملاً؛ فلماذا يضحون بوقتهم وجهدهم في ما لا يعرفون على وجه الدقة صوابه من خطأه، ولمناقشة هذه الأفكار وتفكيكها، واستكمال النقاش حول علاقة مستوى الوعي والثقافة لدى العديد من الشباب السوادني بالحركة والفاعلية على الأرض، أعتقد أننا بحاجة إلى مقال ثانٍ يأتيكم قريبا.
*ست الشاي: اسم يطلق على المرأة أو الفتاة التي تبيع الشاي والقهوة في السودان، حيث أصبحت ست الشاي من المعالم المميزة للمدن السودانية.
(مصر)