24 يوليو 2024
السودان.. القضاء وإهانة السياسيين
خطب ثلاثة نشطاء سياسيين سودانيين، في جمع من الناس، إبّان الانتخابات في السودان، فأصدر قاضي محكمة كرري حكمه، أخيراً، عليهم بالجلد عشرين جلدة لكل منهم، واستند إلى أن الجلد من بين ثلاث عقوبات تجيزها "المادة (67) الخاصة بالجرائم المتعلقة بالطمأنينة العامة"، وذلك "عوضاً عن سجنهم أو تغريمهم، جراء تنظيمهم مخاطبات سياسية تحرّض على مقاطعة الانتخابات في قلب الأسواق العامة"، على ما أفادت الصحف. وبذلك، أضاف القضاء السوداني إلى رصيده في الغريب من الأحكام قضيةً، أثارت ولاتزال لغطاً كثيراً في السودان. فهي المرة الأولى التي يصدر فيها حكم الجلد على سياسيين، وإنْ ليست سابقة سياسية، من حيث الغرابة والجور في الحكم، فكم من اتهامات ثقيلة ألصقت جوراً وظلماً، بقيادات سياسية في ظل حكم الإسلاميين في السودان، ثم صدر حكم سياسي، وليس قضائياً، بالإفراج عنهم. وكم من حالات إعدام نفذت بالجملة، شملت عسكريين في ليلة عيد الفطر، فيما عرف بمذبحة الـ 28 ضابطا عام 1990. وكم من حالات إعدام طاولت أبرياء، لحيازتهم حفنة من الدولارات. وكثيرة حالات إهانة السياسيين بالاعتقال، بتهم العمالة والتخابر والخيانة إلخ .. صف يطول من التهم، ثم ينتهي الأمر بإلغاء التهم، ووقف المسرحية بعد استنفاد أغراضها السياسية.
لن تكون الحالة الجديدة آخر مرة، يتم فيها إصدار مثل هذا الحكم، لكنها قوبلت بامتعاض، لأن الجسد السياسي السوداني بات في حالة من الوهن، بحيث إن حادثة صغيرة يمكن أن تحدث ضجة كبرى. وكثيرة هي الأحكام بالجلد التي يصدرها القضاة يومياً في السودان، بحق بسطاء الناس وبائعات الشاي في الأماكن العامة، وغيرهم من عامة الناس. ومع ذلك، إن سألت أياً من المسؤولين لتباهى لك بأن الحريات المكفولة في السودان لامثيل لها عربيا أبداً.
ولأن السودان في حالة من الوهن الشديد، فقد أثار جلد ثلاثة نشطاء سياسيين حنق كثيرين، لأن جلد السياسي هنا قصد منه الإهانة "وإخافة الرجال"، وهذا بيت القصيد. ويحفظ التاريخ السياسي الممتد حالات كثيرة، قصد بها الحاكم إساءة الخصوم منذ عهد خليفة المهدي عبدالله التعايشي، مرورا بجعفر النميري الذي كان أكثرهم فجوراً في الإساءة لخصومه، وخصوصاً الإخوان المسلمين، بقيادة حسن الترابي. لكن، ما نفذه هؤلاء، بعد انقلابهم عام 1989 تجاه خصومهم، من فجور في الخصومة فاق كل تصور. ومنذ ذلك الحين، يخرج الحكم، في كل مرة، بإهانة لفئة من الخصوم السياسيين، وتمتد إلى كل من يوجه سلاح حرية التعبير، المكفول دستورياً، تجاه الحكم. وبدون عناء معرفة من يكون هذا القاضي. لكن، وبلا جدال، هو أحد من أصابتهم لوثة التمكين من دون جدارة، وعبر إلى كرسي القضاء عبر التنظيم، وليس جدارة الاختيار الصارمة التي عرف بها القضاء السوداني بتاريخه الطويل. والقاضي وحكمه يتسم بقدر كبير من الجبن جعله ينتقي عضوية حزب صغير، ويقودهم إلى مقصلة التشهير، في حين أنه ما من حزب سياسي معارض في تلك الأيام لم يجهر برأيه ورفضه ودعوته المعلنة للناس بمقاطعة الانتخابات. لذلك، الثابت هنا أن الإهانة والتشهير هما القصد من الحكم، لأنه، وفي نهاية المطاف، ليس لدى السياسي ما يقدمه غير فكر ولسان وخطاب.
وتؤكد الحادثة، مجدداً، المدى الذي انحطّ إليه القضاء السوداني، بحيث أصبح أداة سياسية للحزب الحاكم في خدمته، لا في خدمة العدالة التي باتت مغيبة. والقضاء قد غشيه الفساد الذي هيمن على مفاصل الدولة بكاملها، فبات مخلب قط في لعبة السياسة. وإلا، فما يضير السلطات حتى تتوقف عند ثلاثة أشخاص من حزب المؤتمر السوداني، كل ذنبهم أنهم دعوا ناساً إلى عدم المشاركة في الانتخابات، وهذا رأي لا يجرمه القانون بحال. وبالعودة إلى حالة الوهن العامة التي تجتاح الجسد السوداني، والحكم ومؤسساته تحديداً، فإن السهولة التي يطلق بها القضاء، وبشكل متكرر، مثل هذه الأحكام السياسية بامتياز، والمهينة للناس، تفقد عامة الناس الثقة في القضاء وفي العدالة واحترام القانون. وإذا كانت الدولة نفسها أول من يبصق على قوانين قد سنتها، وتتعدى، بشكل متكرر، على حريات التعبير والصحافة، وتمرغ في الوحل هيبة مؤسساتها، فماذا بقي للدولة لدى المواطن. وإذا وضعنا الأمور في صورتها الصحيحة، فوسط حالة من الفساد الوبائي وفساد الأجهزة وانعدام شائع للثقة في الدولة، ولم يبق من هامش كبير. فما بين الناس والانزلاق نحو الفوضي فاصل هش للغاية، لا يحتمل المزيد من الإهانة والاستخفاف بالعقول والمؤسسات العدلية.